بعد أحداث 11 سبتمبر الشهيرة، وجدت الإدارة الأمريكية آنذاك «عدوا» لو لم يكن موجودا لصنعته بنفسها. فإدارة على رأسها جورج بوش وبما يمثله إيديولوجيا، من حيث التزامه ومعاونيه برؤى اليمين المسيحي المتطرف تحتاج إلى الأعداء أكثر بكثير من حاجتها إلى الأصدقاء، إلا إذا كان الصديق بمثابة عميل أو خائن لشعبه في أحسن الأحوال، وهؤلاء وفرة في العالمين العربي والإسلامي على حد سواء. حددت هذه الإدارة مكان إقامة العدو وعنوانه. اجتاحت أفغانستان وأسقطت نظام طالبان وسفكت دماء الأبرياء من مدنيين وغيرهم، لكنها لم تجد العدو، ليس لأنه غادر مكان إقامته ولم يعد، بل لأن العدو يقاتل بأسلبة تختلف عن الحرب المنظمة. فهو ينتظر في الأماكن التي لا يتوقعها الغازي، ويتحصن في الجبال والمغاور والأقبية وسواها؛ ففشلت تلك الحملة العسكرية في تحقيق أي نصر سياسي حقيقي وعملي. فطالبان اليوم قادرة على العودة إلى الحكم لأنها تمسك بالأرض ولأنها تمثل نسبة عالية من المجتمع القبلي الأفغاني. وما نسمعه اليوم عن رشاوى مالية يقدمها أعضاء في حلف الناتو (إيطاليا) إلى مقاتلي طالبان كي لا يهاجموهم إشارة ٌكبيرة ٌإلى الفشل الأمريكي، ناهيك عن كون طالبان وجدت في عدوها مصدرا للتمويل. قد تكون طهران أكثر من استفاد سياسيا و«عقائديا» من غزو أفغانستان. واستفادت أكثر بإسقاط نظام صدام حسين في العراق، حتى إن البعض من مشوشي الرؤى والرؤية في المنطقة العربية اعتبروا أن بوش يعمل في خدمة إيران ليس إلا. بالطبع، إيران عرفت كيف تستفيد من حدثين كبيرين بهذا الحجم على طرفي حدودها، فراحت توسع نفوذها الإقليمي، ممسكة بأوراق كثيرة ومعكرة لسياسات أمريكية، إضافة إلى انطلاقها في تشييد مفاعلات نووية تؤدي إلى تثبيت مساحة الدور الإقليمي، وكذلك تؤكد مرجعية طهران في المنطقة عموما. حملت إدارة بوش فشلها في حربين ورحلت مورثة الإدارة الجديدة تبعات كبيرة، أقلها اهتزاز الصورة الأخلاقية للدولة الأقوى في العالم، (كذبة أسلحة الدمار الشامل، فضائح معسكرات الاعتقال في غوانتنامو وأبو غريب) كلها شواهد. الأهم في هذه التبعات التي ورثتها إدارة أوباما يتمثل في كيفية الخروج العسكري من العراق وتضميد الجرح العميق هناك. بالطبع، ليس المقصود تضميد جرح العراق وشعبه كما يعتبر بعض السذج من سياسيي الصدفة في عراق اليوم. تضميد الجراح الأمريكية ممكن بالنسبة إلى إدارة أوباما بالحد من الخسائر وبالانسحاب الممرحل خلال فترات وجيزة. تبقى الحرب في أفغانستان أمام مآزق الشعار الأمريكي القديم المتجدد «هذه الحرب سنربحها». رفع الشعار جورج بوش ويردده باراك أوباما. وهو شعار يستبطن مفهوما استراتيجيا أمريكيا لهذه الحرب يقوم على أن الخسارة لن تلحق الأذى بشكل محدود بإدارة بعينها، بقدر ما ستصيب النظام الأمريكي برمته. والخسارة بهذا المعنى، إن وقعت، تطرح أسئلة عميقة قد تنتج انهيارا لا أحد يمكنه تصور حجمه على أمريكا وعلى شركائها في السياسة والاقتصاد والحروب. ميدانيا، عوامل الخسارة في أفغانستان تنمو بشكل مطرد يوما بعد يوم. الشعارات ودفع المزيد من جنود الناتو لم يؤت ثمارا. طالبان أفغانستان تتكئ على شقيقتها في باكستان. والحركتان الشقيقتان تؤكدان في الميدان قدرتهما على مقارعة جنود الاحتلال وجنود بلديهما، وباكستان اليوم على شفير الانقسام والتفكك. تغيير برويز مشرف لم يحدث تغييرات مهمة لحلف الناتو. ضربات التفجير الأخيرة والهجوم على مراكز قيادة الجيش الباكستاني تفيد بأن انهيار مؤسسات الدولة بات قاب قوسين أو أدنى. الخضوع شبه المجاني للسلطات الباكستانية كافة للإيعازات الأمريكية صنع غربة وهوة كبيرتين بين الموعز إليه وأكثر مستويات الاتجاهات السياسية. غربة أقل ما يقال فيها إنها بين بنية اجتماعية أصيلة تنتهج «الأصولية والسلفية» وتتخوف من الحداثة بوصفها فخا أو خديعة، وبين تكوين سلطة لا تتوانى في الخلط بين مصالح فردية فاسدة وبين الصالح العام. سلطة كهذه يسهل إسقاطها، خاصة إذا كان خصمها يتمتع بأخلاق نقيضة لها. كيف يمكن ردم الهوة بين البنية والتكوين؟ وكيف يمكن إنقاذ أمريكا ودول حلف الناتو من مخاطر خسارة الحرب على «الإرهاب»؟ السؤال الأول على صلة عضوية بالسؤال الثاني. هذا ما يستوجبه التفكير في كواليس صناعة السياسة في أمريكا. لوبيات الصهيونية من مسيحية ويهودية وغيرها ومؤسساتها في الغرب وأوربا عموما لا يشغلها أي شيء أكثر أهمية من أمر كهذا، ليس بدافع الغيرة لإصلاح ذات البين الباكستاني، بل لارتعابها من أن تصبح طالبان ومن خلفها فكر تنظيم القاعدة يسيطران على مساحة جغرافية بمئات آلاف الكيلومترات، تصير نموذجا يحتذى به في كل العالم الإسلامي، الغني بالطاقة. نموذج قوي بارتكازاته العقائدية يستطيع أن يكون بديلا عن أنظمة هشة وفاسدة. حرب باكستانية هندية ممكنة ومطلوبة. العداء القومي والتاريخي والصراع الحدودي (إقليم كشمير) بين البلدين يهيئ لهذا السيناريو. حرب تستطيع أن تلغي التمايز بين تكوين السلطة في باكستان والبنية الاجتماعية. لكن المخاوف من استخدام الأسلحة غير التقليدية لكلا البلدين أمر وارد، ويدفع من مأزق كبير إلى مازق أكبر بكثير. إذن، الاستنفار العسكري والسياسي بين فترة وأخرى يكفي في انتظار إيجاد البديل. للأسف، البديل اليوم جاهز. ويتم تحضيره على نار هادئة. العمل الانتحاري الذي نفذه أحد أعضاء تنظيم جند الله السني الإيراني في مدينة على الحدود بين إيرانوباكستان أول الفتيل لانفجار الصراع السني الشيعي، في حرب دموية بين الباكستانيينوالإيرانيين ستكون سلم الإنقاذ الوحيد لأمريكا وشركائها من خطر الهزيمة في أفغانستان. في كلا الطرفين، سوف تجتمع قوى السلطة والمعارضة ليقاتلا أخا في الدين. التحضير لهذه الحرب بدأ على ألسنة بعض قادة العرب الذين يظنون أن حماتهم من المستعمرين يستطيعون منع نار الفتنة من أن تصل إلى مجالسهم وأوكارهم. ما يحدث في لبنان والعراق واليمن ليس سوى «بروفات» لما يخطط له بشكل واسع ويراد منه أن يحقن دماء ويهدر أخرى قابلة، بواقع التخلف العمودي والأفقي، لأن تسير كأنهار لا تنضب.