كشف تقرير الأممالمتحدة للعام الجاري عن إحصائيات حول الفقر غاية في الإثارة، جديرة بالاستنكار والامتعاض. يقول التقرير إن 65 مليون شخص في العالم العربي يعيشون تحت خط الفقر، ويعيش في مجموع الدول النامية 3 ملايير نسمة تحت هذا الخط المرسوم، وهم نصف ساكنة الأرض. هذا العدد من الفقراء لا يتعدى دخلهم دولارين أمريكيين في اليوم، ويعيش ما يقارب نصف هذا العدد (1.2 مليار نسمة) حالة «الفقر المدقع» أي بدخل يعادل دولارا واحدا للفرد في اليوم. هذه الأرقام تتضخم – للأسف- مع الأيام، حسب التقرير، مما يشير إلى عجز دولِ وهيئات ومؤسسات العالم عن محاربة الآفة السرطانية المخيفة التي استفحلت خلال السنوات الخمس الأخيرة – حسب التقرير دائما – ولم تُجدِ شيئا عبارات التنديد التي ترددها الأممالمتحدة والمنظمات العالمية المهتمّة كل سنة، وخصوصا في مثل هذا الشهر، إلا أن تؤكد أن هذه القضية مثيرة للقلق والانزعاج، وتستوجب استنفارا أمميا وحربا جذرية تتضافر فيها الجهود. التقرير يؤكد، من جهة أخرى، أن الهوة بين الأغنياء والفقراء اتسعت اتساعا لم يسبق له مثيل، ويفيد بأن ممتلكات ثلاثة من أغنى أغنياء العالم يمكن اليوم مساواتها بالناتج القومي الإجمالي لجميع البلدان الأقل نموا والمقدر عددهم ب600 مليون نسمة. ونحن هنا بصدد الحديث عن ثلاثة أفراد فقط على المستوى العالمي، مقابل عُشر سكان الأرض. الحقيقة التي يعرفها الجميع أن الحلول الصعبة تتحقق في العدالة الاجتماعية وإحياء قيم المساواة الحقيقية وبث روح التضامن، وغير ذلك من القيم الإنسانية التي يمكن إذا تم إحلالها على المستوى الدولي وعلى المستويات المحلية أن تقتلع الآفة من الجذور. وهنا، لا بد من الحديث عن نظر النظام الدولي إلى فحش الاستهلاك الذي تشجعه المادية الاستهلاكية، وكذلك رؤيته إلى الليبرالية الاقتصادية المتوحشة، والملكية المطلقة، واحتكار الثروات الطبيعية، وغير ذلك مما يعتبر صلب المشكل وجوهره، إلى جانب استحضار نظرة هذا النظام إلى بعض القضايا الاجتماعية المسؤولة عن الفقر بشكل مباشر، مثل الأمية والتعليم والصحة وغيرها، وهل يراعى فيها التكافؤ أم لا. المنطق السليم في التفكير والتعاطي مع القضايا يقتضي أن تتفتح العيون على كل الأفكار التي تقدم حلولا أو مقترحات بدون حساسيات، وفي غياب أي اعتبار يمكن أن يعيق إرادة الإصلاح. وأحسب أن الملتقى الاقتصادي الدولي –الذي ينعقد في لندن، أمس واليوم، تحت عنوان « نافذة المستثمر العالمي 2009»- سيناقش لا محالة آراء بعض رجالات الاقتصاد العالمي الذين يرون في نظم الاقتصاد الإسلامي وقواعد معاملاته المالية الخلاص من الأزمة ومخلفاتها، ضمن وعي عام ينسجم مع سعي دول أوربية إلى إطلاق وحدات للبحث والتكوين الأكاديمي لدراسة خصوصيات هذا النظام. حقيقة الفقر في الإسلام هل للإسلام، حقا، تصور واضح حول المعاملات المالية ومحاربة الفقر جديرة بأن تجتمع لها الحشود من هذا المستوى وتقام حولها الدراسات؟ الواقع أن الكتابات والتصريحات حول الموضوع أكثر من أن تحصى، وأغلبها يربط تكريس الفقر بالنظام المالي المعمول به، الذي علق عليه بعض كبراء اقتصاديي العالم المسؤولية في تردي الأوضاع بعد الأزمة المالية الأخيرة، ومن هؤلاء مدير إدارة البحوث والمستشار الاقتصادي في صندوق النقد الدولي وأحد أكبر وجوه المؤسسة «أوليفيه بلانشارد» الذي أقر بضرورة إعادة النظر في النظام المالي برمته، في حين كان من رجالات الاقتصاد من عبر عن مواقف «صادمة» في أشهر المجلات المتخصصة في قضايا المال والأعمال، ومن هؤلاء «رولان لاسكين»، رئيس تحرير(le journal de finance) ، الذي كانت وجهة نظره – من أجل وضع حد للأزمة المالية والاقتصادية التي ضربت العالم- تتلخص في تطبيق نظر الشريعة الإسلامية في الاقتصاد، واعتبر «هذه المبادرة كفيلة بإعادة العافية إلى أسواق المال وتخليصها من الزيف الذي تعيشه جراء التلاعب بقواعد التعامل والإفراط في المضاربات الوهمية غير المشروعة». وإلى جانب المقالات المتخصصة، نُشر العديد من المؤلفات التي طالب أصحابها بالتحرر من عقدة الإسلام المستحكمة في نفوس منظري الاقتصاد العالمي، والنظر فيه خارج المعهود الميتافيزيقي، ودعت إلى المسارعة من أجل استمداد سليم من تشريعاته، يغني نظام المال المعمول به ويطعّم الاقتصاد. وفي هذا الصدد، نشرت الاقتصادية الإيطالية «لووريتا نابليوني» في كتابها «اقتصاد ابن آوى»، الذي ظهر في الأسواق السنة الماضية، أن «التوازن في الأسواق المالية يمكن التوصل إليه بفضل التمويل الإسلامي بعد تحطيم التصنيف الغربي الذي يشبّه اقتصاده بالإرهاب، ورأت نابليوني أن التمويل الإسلامي هو القطاع الأكثر ديناميكية في عالم المال الكوني». وهذه الرؤى لم تنقطع منذ مدة وإن صار الصدع بها أكبر منذ أن انتبه الفرنسي «موريس آلي»، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، إلى الأزمة الهيكلية التي يشهدها الاقتصاد العالمي بقيادة «الليبرالية المتوحشة»، حيث قدّم بدائل استمدها من نظام الاقتصاد الإسلامي، وكان ذلك قبل عقدين من الزمن. وطبعا، غير هؤلاء كثير، لا مجال لتعدادهم، ولا متسع لبيان تفاصيل الرؤية الإسلامية التي أثارتهم، ولا حتى لعرض كلياتها وخصوصياتها، ويكفينا منها الكشف عن بعض الإشارات التي تَُتَلقى من تصورها الكلي ومن نظام اقتصادها العام، وطرائق معالجته لمشكلة الفقر، وهي ما يهمنا الآن من هذه الرؤية «المنظومة»، فلعل حكيم هذا التشريع يَتَكَشف لنا من خلال قطوف منتخبة من داخل نظامه.