ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    المغرب يدعو إلى هامش أكبر من الاستقلالية المادية لمجلس حقوق الإنسان    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب        رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'    أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..        المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العروي يكسر الصمت ويهيمن على المشهد السياسي والفكري
نشر في المساء يوم 04 - 03 - 2015


نورالدين صدوق
يمكن القول إن ما ميز ويميز الدورة الحادية والعشرين من المعرض الدولي للكتاب والنشر بالدار البيضاء عودة المفكر عبد الله العروي للهيمنة على المشهدين السياسي والفكري من خلال ثلاثة كتب شكل محورها ونواتها الأساس. والملاحظ أن كتابين هما من تأليفه، علما بأن آخر ما صدر له ترجمة كتاب «شيخ الجماعة» لهنري دو منترلان (2013)، في حين يمثل الكتاب الثالث تأليفا جماعيا لنخبة من المثقفين والباحثين المغاربة والعرب، الذين تناولوا بالدرس والتحليل مسار الأستاذ العروي الأدبي والفكري، وأشرف عليه الناقد محمد الداهي.
على أن أول الكتب الثلاثة تعود كتابته إلى أربعة عقود خلت، ويتعلق بنص مسرحي وسمه الدكتور العروي ب»رجل الذكرى» (1958)، وكتب في الأصل باللغة الفرنسية قبل أن يتم تعريبه ونشره مرتين، إذ نشر في البداية ضمن العدد الأول من مجلة «أقلام» المغربية في عددها الأول (1964)، وأدرج لاحقا كملحق لقصة «الغربة» (1971)، التي تمثل أول نص سردي روائي من رباعية ضمت: الغربة، اليتيم، الفريق وأوراق.. أنهاها الدكتور العروي كمشروع أدبي بنص حمل عنوان «الآفة» (2006).
ويرى الأستاذ العروي بأن نشر هذا النص النواة يشكل مفتاحا لقراءة بقية أعماله الأدبية والفكرية. يقول: «قرأت مؤخرا «رجل الذكرى» بعد مرور ما يقرب من أربعة عقود. استثقلت الأسلوب غير المتجانس وزدت قناعة بأن المرء لا يتعلم الكتابة إلا بالكتابة. لذلك قررت مراجعة النص مراجعة تامة حتى لا ينفر من مطالعته قراء اليوم».
بيد أن ما تم التركيز عليه في هذا النص المسرحي تحديد مفهوم القطيعة والماضي، والذي سيتحقق تفصيله في الكتاب العمدة «الإيديولوجية العربية المعاصرة» (1967). ويحدد الأستاذ العروي مفهوم القطيعة في تقديمه ل»رجل الذكرى» كالتالي:
«لم أقل بالقطيعة كحافظ للماضي، بل كداعية للإحياء والتجديد، بعث حياة جديدة، مستأنفة، في نفس من كاد ترديد القديم أن يخنقه ويجمده».
أما الكتاب الثاني فيتجسد في الجزء الرابع من يوميات «خواطر الصباح»، حيث يتأطر زمنيا بين سنتي 1999 و2007، ويحمل عنوان «المغرب المستحب أو مغرب الأماني»، ويوثق لبدايات حكم الملك محمد السادس، إلى الظروف والملابسات التي عرفتها حكومة التناوب التي قادها السياسي اليساري عبد الرحمن اليوسفي، ليتم في اللاحق الانقلاب عليها وعودة التقليد لممارسة هيمنته. يكتب الأستاذ العروي في هذه اليوميات: «دار الزمن وقرر الحسن الثاني أن يسند الحكومة إلى ورثة يسار 1960. لا أدل على ذلك من اختيار اليوسفي عوض بوسته. خطوة لا تفهم إلا إذا افترضنا أن الحسن كان واعيا بخطورة مرضه. لكن الجناح المحافظ، الممثل في الحكومة والإدارة والقصر، كان يستعد لإعادة تمثيل مسرحية 1960. وذلك بإقالة حكومة اليوسفي بدعوى أنها لم تف بوعودها، إذ لم تحل المشكلات الاقتصادية ولم تخفف من حدة التوترات الاجتماعية ولا أرضت الطلبة الغاضبين».
ولا يقتصر المعنى الوارد في هذه اليوميات على الشأن السياسي المتعلق بالمغرب، وإنما يتوسع ليطول أهم الأحداث السياسية التي عرفتها المرحلة الممتدة من 1999 إلى غاية 2007. يكتب، مثلا، في يومياته عن أحداث 11 سبتمبر 2001: «لماذا استهداف أمريكا؟ إن صح أن العملية إرهابية فعلا، لن يقول أحد إن السبب هو أن أمريكا خضعت كليا لأغراض إسرائيل، سيما تحت هذه الحكومة اليمينية المتطرفة».
ويضيف «ظهرت أمريكا على حقيقتها، غير محمية من الأخطار الخارجية، يسيرها أناس لا خبرة لهم بالسياسة العالمية، اهتمامهم مقصور على حوادث الداخل ووقعها على الرأي العام من خلال تعاليق الصحافة».
ويستخلص في يومية دونها بتاريخ 18 سبتمبر: «من الرابح؟ المؤسسة العسكرية وهيئة الاستخبارات. وافق الكونغرس على اعتمادات ضخمة، توقف العمل بعدة قوانين كانت تحد من صلاحيات أجهزة الأمن، ثم أسندت للرئيس صلاحيات جديدة لمحاربة أعداء أمريكا.. يستطيع في أي لحظة أن يقول: هذا الشخص، هذه الجماعة، هذه الدولة، هذا النظام يؤوي أو يعين الإرهاب ويشن عليه هجوما دون الرجوع مجددا إلى الكونغرس».
ويتعلق الكتاب الثالث الموسوم ب»النغمة المواكبة» بقراءات في أعمال عبد الله العروي، شارك فيه من النقاد والباحثين العرب كل من فيصل دراج، مسعود ظاهر وتوفيق بن عامر، ومن المغاربة محمد برادة، أحمد اليابوري، كمال عبد اللطيف وغيرهم، وأشرف على التنسيق والتقديم كما سلف الناقد محمد الداهي، وتحقق توزيع بنية الكتاب إلى ثلاثة أبواب هي:
في التجربة التخييلية.
الأفق الفلسفي والفكري.
في النقدين المعرفي والثقافي.
ويبدو من خلال تقسيم جسم الكتاب أن الغاية هي الإحاطة الشمولية بالتراث الفكري للأستاذ العروي، الذي يصعب تأطيره في توجه مفرد، خاصة أنه يمثل النموذج الدقيق للمثقف المنفتح على كافة الحقول، وهي طينة مثلها الراحل البروفيسور إدوار سعيد. إلا أن ما يمكن ملاحظته عن التقسيم المعتمد، غياب التطرق إلى شخصية المؤرخ الذي أولى عناية لتاريخ المغرب من خلال كتابين : «مجمل تاريخ المغرب» و»الأصول الثقافية والاجتماعية للحركة الوطنية».
بيد أن اللافت في هذا التجميع هو نص الحوار الذي خص به الأستاذ العروي الكتاب، وجسد فيه حصيلة اهتماماته وتوجهاته إلى مواقفه من الغرب وما يسمى «الربيع العربي». فمن حيث اهتماماته الراهنة يقول :
«أميل اليوم إلى مطالعة كبار الفلاسفة ومنظري السياسة. ولهذا الاهتمام علاقة بالوضع الراهن، العربي والدولي، الذي يطرح علينا جميعا سؤالا محيرا كان يبدو إلى عهد قريب متجاوزا. أعني الديمقراطية التيوقراطية أو بالتعبير الإسلامي الدولة الشرعية العادلة».
أما تعريفه للحداثة فيحصره في: «الحداثة واقع تاريخي ذو مسارات مختلفة وأوجه عدة. المفكر الحداثي ليس من يعرض النظريات ويفند الاعتراضات، وإنما من يتسلح بالمنهج النقدي، وينظر مجددا للتاريخ العربي وللعقيدة، ولمفهوم الديمقراطية والبحث العلمي. من لا يغادر سماء الإيديولوجية يهزم بالإديولوجية، أصيلة كانت أم مولدة».
ويرى بخصوص تمثله لأحداث «الربيع العربي» أن «ما ظهر بوضوح أثناء الأحداث الأخيرة، هو أن الجانبين أساءا تقييم الواقع. الحكام تجاهلوا الوضع الداخلي، ظنا منهم أن سياسة مداهنة الأجنبي وإرضاء فئة قليلة من السكان تضمن الاستقرار، والمعارضة تعامت عن أهداف الدول الغربية».
يبقى القول، من خلال السابق، أن الأستاذ عبد الله العروي الذي طالما نعت بالمثقف الصامت، يختار بدقة الفترة التي يمكنه التدخل فيها بالحديث وإبداء الرأي، وهو ما استوقفنا في موقفه الجريء من مسألة الدعوة إلى ترسيم اللغة الدارجة على مستوى التربية والتعليم.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يقرأ سياسيونا؟.
حضرة الموت
علاء الشاوي
كنا على ظهر السفينة عائدين إلى أرض الوطن، فرحين بعد رحلتنا التجارية التي بدا أنها ستحقق لنا الثراء بعدما امتلكنا كميات وفيرة من الذهب أحضرناها من الشمال. كانت أحلامنا تنط على الجمر ونحن ننتظر بفارغ الصبر أن تطأ أقدامنا اليابسة لنعانق الحياة الرغيدة كمعانقتنا لزوجاتنا الجميلات على الميناء، وتتحول الأحلام من مجرد أحلام إلى حقيقة.
حاول بعض أصدقائي وأنا جالس على الكرسي جعلي أشرب بعض الخمر، وهم من كانوا قد اغتسلوا به، كانت تلك المرة التاسعة التي حاولوا فيها معي لكنهم تلقوا نفس الجواب في كل مرة. كان علي أنا المسلم الوحيد في السفينة أن أكون سفيرا جيدا يدافع عن دينه.
صرخ أحدنا فجأة:
-احذروا، العاصفة قادمة!!
سمعت ذلك من غرفة نومي، ارتعدت صورة زوجتي بين أناملي وتحرك السرير من مكانه. سقطت قنينة الجعة التي تركها أصدقائي قبل قليل وبدا المصباح المعلق يتراقص بجنون وهستيرية قبل أن ينفجر بعد اصطدامه بالسقف. مر ذلك في رمشة عين ثم ساد صمت رهيب وصارت الغرفة أكثر ظلمة من قاع المحيط.
هل انتهت العاصفة؟ حتى السكون أصبح موحشا. شددت على صورة زوجتي كما لو كانت قارب نجاتي، انتقلت داخل الغرفة لا أرى ولا أسمع شيئا ثم أعدت السؤال:
هل انتهت العاصفة قبل أن تبدأ؟
سحق زجاج المصباح المنكسر رجلي، فسقطت في مكاني صارخا، ثم نهضت ممسكا بالقدم الدامية، شعرت بدماء في الرجل غير المصابة، لا لم يكن دما، بل ماء، ماء متسربا، سرت وراء مصدره زاحفا لأجد الباب وأنا أتلو الأدعية التي استطاع ذهني الاحتفاظ بها، لم أتمكن من الخروج فقد كان الباب مغلقا من الخارج، يبدو أن أصدقائي السكارى أغفلوا أنني بالداخل مغلقين الباب علي، أم أنها مجرد خدعة بحارة. كان الصمت لا يزال مخيما على المكان.. لم أستطع فتح الباب أو تكسيره، وكان ظهري الضحية الوحيدة في كل محاولات الخروج.
غطى الماء المتسرب من أسفل الباب نصف جسمي وأنا حامل لصورة زوجتي بقوة بين يديّ، أودع ملامحها في الظلام الدامس، وداعا حبيبتي، العاصفة تأتي بما لا يشتهي الأحباء، كان في انتظارنا عمر سعيد…
سُمع في ذلك الصمت المجهول الهوية صوت انهمار دموعي على سطح المياه المحيطة بي، تذكرت أنني طلبت من زوجتي إعداد فطيرة التفاح لدى عودتي، سيتوجب عليها الآن إعداد فطائر أخرى للضيوف ذوي اللباس الأبيض والوجوه الباكية، «كان المرحوم صافي القلب يتبع الطريق المستقيم، آااه مات ولم يجدوا جثته»…
في غفلة من الزمن خرج العصفور من الساعة المعلقة يزقزق كأنما يريد الطيران من مكانه، إنه منتصف الليل، الزمن الأفضل للموت، انتصبتُ هلعا… هل نمت؟ ماذا حصل؟ هل أنا في الجنة؟ أهو رماد الجحيم؟ ألا زلت في الغرفة؟
وجدت أن الماء قارب قامتي، سمعت رفاقي البحارة لأول مرة يصرخون، لأول مرة يذكرون اسم الله، تضاعف خوفي فتولدت طاقة خفية جعلتني أكسر باب الغرفة لأقابل ضوء القمر بعد ساعات من العتمة.
اختفت ملامح السعادة عن وجوهنا، فكل السعادة التي اختلجتنا عند حصولنا على الذهب صدئت واكتسحها شبح الهلع. رفع الجميع بصره، كانت السحب قد التهمت القمر، فزمجرت السماء وسطع البرق وهاج البحر غاضبا يضرب بأمواجه السفينة التي صارت تتمايل مثل عجوز فوق كرسيه الهزاز.
وبسرعة امتلأت السفينة ماء، توجه بعضنا- ممن لم يسقطوا- إلى الداخل متأكدين أن معدة الموت تشتهيهم، وآخرون اِدعوا الشجاعة دون أن يعلموا أن ملامح الهلع واضحة على محياهم وضوح النهاية. قيل إنها اللعنة دون أن يحددوا لها سببا، كان ذلك هو أطول طريقٍ من الحياة إلى الآخرة.
بدا أن السفينة تغرق لحظة بعد أخرى، فقرر القبطان التخلي عن شخص ما لكي تخف الحمولة، بعد أن أبى التخلص من الذهب. لم نمتلك الوقت لمناقشة الأمر فتمت عملية الفرز..ولسوء الحظ أخذت القشة المنكسرة واختارني القدر أنا المسلم الوحيد على ظهر السفينة لأواجه مصيري المحتوم. علمت أن القدر هو الآخر يعلم شيئا اسمه الميز في الاختيار.
على حافة السفينة وقفت أشاهد الحياة للمرة الأخيرة، ودعتهم لكنهم لم يصغوا إلي لقوة ما يدور من حولهم كما لو تمنوا أن أسرع بالسقوط. كانت العاصفة تزداد قساوة والطريق إلى الموت تكاد تنتهي.
عادت بي الحياة إلى استرجاع لحظات ولادتي الأولى، لحظة ختاني، أبي يعلمني الصلاة، أول صراع لي في الحي، فترة مراهقتي، لحظة التقائي بزوجتي وشعرها الأشقر الذي يفوق أشعة الشمس جمالا وبهاء، لحظة زواجنا، العرس، خبر حملها الذي كان قبل أحد عشرة شهرا من الآن، سيعيش الطفل يتيما، من سيعلمه الصلاة؟ الرجولة؟ شعرت بندم حارق لركوبي هذه السفينة المليئة بطماعين فضلوا رميي عن رمي كميات الذهب، مجموعة من الكفار لا يعرفون الله إلا في الأوقات العصيبة، رفعت رأسي للسماء المتجهمة أتلو الدعوة الأخيرة، نطقت بالشهادتين وشفتاي ترتجفان مثل ورقة في مهب الريح، حككت لحيتي المبتلة ثم ألقيت بنفسي بكامل نيتي وقناعتي لثغر البحر القاتم لملاقاة حضرة الموت، انتظرت أن ينقذني أحدهم لكن طمعهم في الحياة كان أشد من شفقتهم عليّ، كانت الحياة أغلى مما كنت أظن، كما كنت أبخس ثمنا من الذهب ليفضلوا رميي مكانه…
حافظت على آخر أنفاسي داخل الماء. فكرت لبرهة أن الحوت سينقذني كما أنقذ نبي الله يونس، فجأة بدا لي الحلم يتحقق، رأيت ملامح الحوت قادمة صوبي. يبدو أن الله قد تلقى دعوتي، فاستجمعت شجاعتي وتولدت أنفاس جديدة من عدم كما لو وهبني الله رئة ثالثة، شعرت بالحظ ينقلب لصالحي وتمددت طريق العودة للحياة طويلة أمامي، إلى زوجتي! فطيرة التفاح! فابتسمت وأنا في عمق البحر لكن لسوء حظي وجدت أمامي نفس الابتسامة من قرش جائع فتبددت عزيمتي وطفت فقاعات أنفاسي على السطح مثل الراية البيضاء، قلت في قرارة نفسي قبل أن تمزقني أنياب القرش: «ظننت نفسي النبي يونس، وظننت القرش حوتا، لست سوى عشاء لذيذ رُمي من فوق السفينة، يا لسخرية القدر، سوف أدفن في معدة قرش، فلأرقد بسلام…».
التشكيل المغربي وفراغ المعنى
شفيق الزكاري
شاع حاليا الحديث عن التشكيل المغربي وعلاقته بالمعاصرة، لكن الأمر لا يعدو إلا أن يكون مغلوطا، لما يحمله مفهوم المعاصرة في بعديه التاريخي والدلالي، من التباس، لأن الوصول إلى المعاصرة رهين بمراحل متعددة تتم فيها معالجة كل القضايا العالقة منذ البداية في الثقافة والفن في علاقتهما بالتطورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بصفة عامة، والوقوف على عناصر الخلل التي قد تجعل حرق المراحل عائقا حقيقيا في تطور الثقافة والفن، باعتبارهما عنصرين لا ينفصلان.
كما أنه كثر الحديث في الآونة الأخيرة، في الأوساط الفنية، عن الحداثة وما بعد الحداثة، مع العلم أن هذين المصطلحين مرتبطان بظروف نشأتهما وتطورهما في مجتمعات تختلف في مقوماتها الفكرية والدينية والفنية… كل الاختلاف عن المجتمع المغربي. ولهذا فإن ضرورة إعادة صياغة الرؤية فيما يخص التشكيل المغربي بكل أنواعه واتجاهاته على الخصوص، أصبحت واردة وضرورية، أمام انقسام الآراء حول مفهوم الحداثة والمعاصرة في هذا الجنس التعبيري، وغياب المقومات التي أشرنا إليها في البداية، ولذلك نستشف من أغلب الكتابات حول هذا الموضوع ضعفا في مقروئية عمق التجارب الفنية المغربية، من خلال عدم ارتباطها بالأسئلة الحقيقية المتجذرة في الموروث الثقافي المغربي، الذي استفاد منه الغرب أكثر مما استفاد منه المغرب، لتوفره على مناهج تحليلية من منظور معين، خدمة لثقافته، كما حدث في فترة عرف فيها هذا الغرب استنزافا ثقافيا، دفع بالعديد من مبدعيه إلى الهجرة إلى إفريقيا والشرق بحثا على مواضيع جديدة لأجل انتعاش تجاربهم، وعلى سبيل الذكر لا الحصر، اهتمام رائد التكعيبية بابلو بيكاسو بالأقنعة الإفريقية، وجورج ماتيو رائد التجريدية الغنائية بالخط الياباني، وزيارة هنري ماتيس لشمال إفريقيا…إلى جانب الدراسات والأعمال الفنية التي دمغت الذاكرة البصرية والكتابية والشفاهية المغربية، من خلال أعمال المستشرقين من الفنانين الغربيين.
إن الحديث عن الحداثة في التشكيل المغربي يجرنا إلى سؤال محوري وأساسي هو: هل فعلا استطاعت التجارب الفنية المغربية الانخراط في مشروع الحداثة؟ وهل استطاعت أن تتجاوز مفهوم الحداثة لتصل إلى ما بعد الحداثة بمفهومها المعاصر؟.
هي، في اعتقادي، أسئلة بعيدة عن الطرح الحقيقي، الذي يختزنه مفهوم الحداثة، عند جل الفنانين المغاربة، خاصة أن المستوى المعرفي والمرجعي والثقافي للبعض منهم، لا يرقى إلى مستوى إثارة نوعية هذه الأسئلة المرتبطة أساسا بالمفهوم الشامل للثقافة، نظرا للقطيعة التي تعرفها الأجناس الفنية والثقافية، مما تسبب في انزواء التشكيل المغربي وانطوائه على نفسه في إطار مشروع لا يعدو أن يكون إلا تقنيا وحرفيا، يهتم بالشكل والمظهر الجمالي دون أن يهتم بالمعنى أو الموضوع، في إطار ما يسمى ب»الفن من أجل الفن»، علما بأن دور الفنان التشكيلي هو الانخراط في القضايا الاجتماعية والسياسية…، مع تحديد مواقفه من كل ما يجري في محيطه، وهي التجربة التي التزمت بها مجلة «أنفاس» في السبعينيات، بمشاركة عدد من المثقفين والفنانين الذين تحملوا مسؤولية الاهتمام بالقضايا الجوهرية التي تهم سؤال الهوية والحداثة في بعدها الشمولي، فكان محمد شبعة من بين المنظرين في مجال التشكيل، نظرا لاستيعابه ضرورة التواصل مع كل الأجناس الأدبية والفنية، كمشروع نضالي نحو تحديث الفعل الثقافي المغربي والتصاقه بمحيطه.
إن القطيعة التي عرفها تاريخ التشكيل المغربي تسببت في فتور الاستمرارية الفنية من حيث الأساليب التعبيرية في هذا المجال، نظرا لتضخم الأنا عند بعض الفنانين بطريقة فجة، حالت دون تحقيق الاستمرارية بين الأجيال، فكان كل جيل يعمل على إلغاء الأجيال السابقة، مما جعل التجارب المغربية مقتصرة على الفردانية، خلافا لما كان يجري في الشرق والغرب، مما ساهم في تغييب الخيط الرابط بين هذه التجارب، التي أصبحت مستقلة بذاتها اعتمادا على مرجعية استيلابية غربية، تم نقلها بطريقة مشوهة، تخلو من الروح الكامنة في المضامين التي جاءت من أجلها، مع الإقصاء والإلغاء والتهميش والقفز على حقب تاريخية تشكيلية مغربية، كما حدث بالنسبة لواقع الفن في الثمانينيات، حيث كان من الممكن لهذه الفترة كجل الفترات الأخرى أن تؤثر وتكون جسرا رابطا بين التشكيل في الماضي والحاضر.
فبعدما أصبح للتشكيل المغربي وجه مختلف آخر على المستوى الرسمي، نظرا لاجتياح وانتعاش عشوائي غير منتظر للسوق الفنية من طرف رجال الأعمال، وبعض المؤسسات البنكية، ودور المزادات العلنية، وبعض الأروقة التي ظهرت فجأة، إلى جانب نوع جديد من الجماعين، اتخذ التشكيل مسارا آخر، جعل الثقافة المغربية ذريعة لإبراز الوجه الفلكلوري، مع انتزاع كل ما يمت بصلة إلى فحوى الأسئلة الحقيقية لهذه الثقافة.
الغرض من هذا المسار هو التأكيد على التبعية الثقافية للغرب ولفرنسا تحديدا، مع الخضوع لطلبات محددة لأصحاب المال، لم يعد فيها الفنان هو الحاسم والفاصل في اختياراته الإبداعية، في غياب موقف واضح من هذه الوضعية، التي أملت عليه نظرا لظروفه المعيشية المترهلة، الاستفادة من المكاسب المادية الضئيلة جدا، مقارنة بسماسرة الفن، الذين استفادوا ولازالوا يستغلون الأموات من الفنانين والأحياء منهم، فكان سببا رئيسا في غياب المعنى خضوعا لطلبات السوق التجارية.
الغريب في هذه الوضعية هو تجنب كل من ساهم، من بعيد أو قريب، في الإقرار بمسؤولية هذا الاختيار، الذي استند إلى قرارات لا تمت بصلة للواقع الثقافي المغربي، مما جعل التشكيل المغربي يمر بفترة حرجة تخلو من القيم التي تم الرهان عليها في بداية الاستقلال من طرف الرواد، أمثال الغرباوي، الشرقاوي، بلكاهية، شبعة… موازاة مع الكتابات المصاحبة للإبداع التشكيلي، التي تأسست بموجب اهتمام الأدباء والكتاب المغاربة بالفن عموما في فترة مبكرة، بأساليب عاشقة تنهل من الفن وتصب فيه، بحثا عن ذاتها الإبداعية، لتبتكر نصوصا موازية بإشراقات تضمن صيرورة الجنس الأدبي والفني معا، لكن بعد ظهور (نقاد الفن)، باستثناء البعض منهم، تكاثرت الكتابات في الآونة الأخيرة، خاصة باللغة الفرنسية، عن تجارب متنوعة اختلط فيها الحابل بالنابل، نظرا للانتعاش الذي عرفه سوق التشكيل، لتنتقل من البحث عن المعنى، من خلال الأشكال والتقنيات، إلى نقد يبحث عن المنفعة المادية من خلال الشكل والوصف دون الجوهر، بنصوص لها قياسات معيارية، يمكن إسقاطها على كل التجارب بدون استثناء، مع تغيير لأسماء الفنانين فقط، فساهموا بوعي أو غير وعي في تكريس وضعية هجينة لواقع تشكيلي بعيد كل البعد عن التجارب الجادة، التي تطرح أسئلة عميقة في صلب الثقافة المغربية، مما ساهم في غياب شبه كلي للوظيفة الحقيقة للتشكيل المغربي، وإفراغه من دلالته الرمزية والتاريخية في علاقته بالهوية والمعنى، بالاحتماء بمناهج فلسفية بعيدة كل البعد عن واقع التشكيل المغربي، كإسقاطات هيمنت عليها اللغة البلاغية لتتحول من لغة بمضامين فلسفية هادفة إلى فلسفة سفسطائية، تقول الكثير لتعبر عن اللاشيء، بمظاهر تعبيرية عاشقة على مستوى الشكل بعيدا عن روح المعنى، بلغة أجنبية لا تمت بصلة للهوية المغربية قلبا وقالبا، في محاولة تغيير الوجهة الصحيحة التي تخدم مصالح فئة قليلة تابعة بشكل من الأشكال لاستمرارية الهيمنة الرمزية للاستعمار، على حساب فئة صادقة غيورة أخرى، تؤمن بالاستقلالية الثقافية استنادا إلى مرجعية وطنية مرتبطة بالجذور وبالتربة المغربية.
بعيدا عن الضوضاء قريبا من السكات.. جدلية الثنائيات
أبو يوسف طه
محمد برادة متفرد في روائيته، وهو الكاتب والناقد والمترجم، بالنسبة لي لن أخطئ في نسبة عمل إليه ولو لم يحمل توقيعه، وبرادة من الكتاب الذين حملوا عبء النضال واصطلوا بناره بما يحفه من انكسارات وانتصارات، وقد أسعفه النأي المادي عن (الفضاء الوطني) لأن يستعيد في روايته الجميلة، وفي 220 صفحة، فترة خمسين سنة من تاريخ المغرب الحديث الحافل بالاحتقان والتوترات، وهو أمر يطرح سؤالا وجيها على القارئ العادي: هل من الممكن استيعاب هذه الفترة والتقاط لحظاتها الهاربة في كتلة نصية في مثل هذا الحجم؟ الجواب، بداهة، ميسور، وهو يحمل ضمنيا توصيفا مائزا لخاصية الكتابة عند محمد برادة. ويمكن بيان ذلك بنقيضه، فكثير من الروايات إما مليئة بالشحلاف لا يمكن قراءتها إلا بعد ذري، أو لا يمكن لقراءتها إلا أن تكون عبئا أشبه بصعود جبل، تسبب إرهاقا لا لزوم له، أو هي تخيلات متوهمة لا تستبطن شيئا، أو مسطحة لا مركز لها، وقد يجد الكاتب مخرجا في اللف والقفز والتخبيل والترميق … ويقوم (النقد السريع) و(المتابعات الإعلامية السطحية) و(الجوائز المشبوهة) بخلط الأوراق.
الخاصية المائزة لمحمد برادة تتجلى في الانسيابية، والاقتصاد اللغوي، والوضوح الدلالي بالإضافة إلى الرؤية (الرؤيا) الحياتية العميقة التي تنتصر للمستقبل، ولبيان ذلك: حينما نبحر في سطح المتخيل الروائي تتشيّد في العمق رواية موازية مجادلة، يشي ذلك بالقدرة على الكتابة بيد مقبوضة متأتية من السيطرة على الموضوع وتفاصيله حبكة ومحتوى، خطابا ومحكيا. فاللغة متسمة بوضوح دلالي بين، لا تشوش عليه ظلال زائدة أو تشبيهات غير وظيفية، فكل شيء منتقى بعناية، ناهيك عن زخارة الطاقة الانفعالية التي تنتظم النص من بدايته إلى نهايته، عابرة كيان الشخصيات متلونة بتباين أهوائها وميولاتها وأوهامها. إنها رواية (مصائر) تنصنع من تصادم الكائن مع شرطه التاريخي، هذا الشرط المتسم على الأصعدة كافة بتسيٌّد الجماعي على الفردي، وتبدد قيم وبزوغ أخرى، واختلاط الزائف والحقيقي، قيم القدامة والحداثة وتجسّدها في سلوكيات الأشخاص والمنظومات، والحيرة الضاربة من خلال (عدم التلاؤم) بين ما رسخه الماضي، وما يوجبه الحاضر، وما يستدعيه المستقبل الذي يتلامح. هذا الارتطام العنيف هو ما يشكل (عقدة) الرواية، وما أسميته في مناسبة سابقة (الدافعية الباطنية)، وهي قوة التحول غير المنظورة، الحاملة للوعد التاريخي، المؤججة للصراعات والتطلعات، والتي تسبغ على الواقع العياني طابع التهجين، هذا الواقع الصوري الذي يخادع الرؤية ويحرفها عن التقاط (الجوهري)، فالكتابة الجيدة ليست انعكاسا للحياة، بل تحليلا وتفسيرا لها، وكشفا للبؤرة الناظمة لحركيتها. الكتابة إضاءة للغميس والمجهول في الذات والمجتمع والتاريخ. لقد مارس برادة بنأيه عن (الفضاء الوطني) دور العلائي (الصوفي) الذي يعود إلى ذاته (لا بحثا عن المطلق في مكان ما) المتحررة من الأوهام والتي تحتضن العام، تفككه، تسأله، تموقعه من خلال ذوات متبانية الأوعاء، فالرواية سعي لامتلاك الذات، والإمساك بخدروف في حالة دوران دون أن يتوقف، انطلاقا من الضوضاء إلى بلاغة الصمت، في فضاء يتسم بالعتمة واللبس والوضاحة، تنجدل فيه ضفيرة الآتي من خلال تجاذبات القيم والمواقع والتصورات. فالرواية (بعيدا عن الضوضاء. قريبا من السكات) ملحمة حاضرنا، تفتح مجالا واسعا للبحث عن الكامن، المتواري خلف طمأنينة سعيدة للعثور على النواة والإيقاع الصاخب الذي يحجبه الشكل الظاهري فلا نكاد نسمعه. هذا الحاضر الموهم بالثبات والسكون، والذي يتوزع انشغال الكتاب به ما بين مهتم بالتقاط المتبدد من تقاليده وعاداته، ومسلكياته، وساع إلى عرض التاريخ من خلال اهتمامات آنية، أو مهوم في اللا يسمى، غير أن ما يغيب في مجمل هذه الأعمال (التقاطع الدرامي الحاد) الذي يضفي على هذه الكتابات الطابع الملحمي لا قصورا في إمكانيات الكتاب، على تفاوت، في مواهبهم وقدراتهم، ولكن بسبب الفضاء الفكري الذي ينتجون أعمالهم في سياقه، وهو فضاء موسوم بروح غير جدالية، يبيئ المعرفة ولا ينتجها، هذا إذا لم نراع جانبا أساسيا وهو مدى شمول وتنوع ثقافة الكاتب، وعمق تجربته الحياتية، وحيازته مدونات مجالية تتصف بالغنى، وتسمي عالما شاسعا من الموجودات، ومعرفة بالقصد من كتابة رواية، وهذا لا يلغي بتاتا الاستثناء. بدهي، في نظري، أن أولية الأدب ليست محددة في نشدان السكينة والاسترخاء، بل في تأجيج القلق، وبعث فضائل السؤال من خلال خلخلة وتفكيك ما يوهم بالتأبد، ولململة والتقاط ما يتخلق في الذات والعوالم المحيطة بها من تبدلات وقيم، ومن مد وجزر بين الأوعاء والتصورات، ويبدو لي أن رواية برادة تلامس ذلك بتفوق من خلال اشتغاله على ترسيمة الثنائيات الضدية:
القدامة – الحداثة – الاستبداد – المزيف – الخداع – الحلم – العلم – الفرجوية – التقييد الجسدي – اللاتكافؤ الجنسي – الضوضاء – الأنا – الانغلاق – الحرية – الحقيقي – الصدق – انجلاء الأوهام – الجهل – الجدية – التحرر الجسدي – التكافؤ الجنسي – السكات – الآخر – الانفتاح – الخ…
من خلال جدلية هذه الثنائيات تتفتح الشخصيات، وعبر ممر حياتي مليء بالتصادمات تكتسب سماتها المائزة، في وضع موسوم بتعطيل الجدلية وحرفها وبالخذلان وقدمنة الحداثة.
شكير نصر الدين: ما يهمني في التعريب هو التقريب لا التغريب
قال إن كل ترجمة هي مغامرة لها مخاطرها الممتعة
حاوره – صدوق نورالدين
تشكل الترجمة رافدا أساسيا من روافد الأدب والفكر الإنساني عموما. والواقع أن هذا الرافد أثار ويثير من الإشكالات والقضايا ما يستلزم التأمل وتمعين التفكير، بغية الاهتداء إلى الصورة الحقة لنموذج الترجمة المتغيا والمطلوب.
على أننا في هذا الحوار مع المترجم والناقد شكير نصر الدين، ومن خلال تجربته العميقة والنص الموصوف والموضوع، سنسعى إلى استجلاء واقع الترجمة، والممارسة النقدية، التي يحرص من خلالها على دراسة بعض الظواهر الأدبية ومقاربة النصوص نثرا وشعرا.
وتحق الإشارة هنا إلى أن ما يتفرد به شكير نصر الدين، التزامه بتقديم التراث الأدبي والنقدي للناقد الروسي ميخائيل باختين، حيث ترجم له من الكتب: "جمالية الإبداع اللفظي" (دار دال/سوريا) وستصدر طبعة ثانية له عن دار رؤية (مصر)، ثم "الفرويدية" عن نفس الدار المصرية، و"أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية" (دار الجمل/بيروت ألمانيا)، إلى جانب ترجمات أخرى نذكر منها: "أليس في بلاد العجائب" للويس كارول (المركز الثقافي العربي/بيروت الدار البيضاء)، و"فتاة من ورق" لغيوم ميسو عن نفس الدار، وكتاب "القراءة" وهو ترجمة موقعة برفقة الكاتب والمترجم المغربي محمد آيت لعميم وهي لفانسان جوف، وصدرت بمراكش، ثم "النقد الأدبي" لجورج روجي، الذي صدر عن "دار التكوين" بدمشق/سوريا.
– هل يمكن تحديد مفهوم دقيق للترجمة؟ وما الفرق بينها وبين التعريب؟
لا يسع المرء أن يقدم تحديدا جامعا مانعا للترجمة باعتبارها من المفاهيم الإشكالية التي أثارت الكثير من الجدل عبر التاريخ، محليا وعالميا. لكن، مع ذلك، هناك اتجاه غالب، اليوم، إلى اعتبارها تواصلا عبر لغتين، لكل منهما مميزاتها وامتدادها التاريخي والفكري والثقافي. الترجمة، وفق هذا المنظور، وساطة لغوية تراعي السياقات المتشعبة الخاصة بكل من اللغة المنقول منها وتلك المنقول إليها، مما يعني اعتبار اللغتين في اختلافهما وائتلافهما في وقت معا. ولعل ذلك قد يقودنا إلى الفرق بين التعريب والترجمة، وهو فرق منهجي، إذ ليست هناك حدود جازمة بين كل من الفنين؛ قد يبدو التعريب من منظور الاشتغال اللساني الصرف تعصبا لنقاء اللغة المستهدفة، العربية في حالتنا، بحثا عن اللفظ الخارج من صلب العربية للتعبير عما تم إنتاجه في ثقافة وفكر وعلوم مغايرة، أي نقل المفردة النواة وكأن هناك معنى جوهريا في اللفظ، وبالتالي فإن هاجس وحدة اللغة العربية وانسجامها الداخلي (تركيبا وصرفا ودلالة)، والخوف عليها من ذلك الدخيل غالبا ما أدى إلى الكثير من المضحكات. إن مثل هذه النظرة الضيقة لفن التعريب لا يمكن أن يدافع عنها المرء، إذا كان المسعى من التعريب هو خلق المثيل، في حين أنه يخلق وَهْم المثيل. ما يهمني في التعريب هو التقريب، لا التغريب، والتغريب غير مستحب في الترجمة أيضا. من هنا ما يبرر ما ألمحت إليه آنفا من أن ليست هناك حدود جازمة بين التعريب والترجمة. إذ ينبغي النظر إليهما فيما يصل بينهما، أي أن يستلهم المترجم دقة وصرامة المعرِّب دون الانغلاق على مكون المفردة، وإنما الانفتاح على سياقاتها التداولية المتشعبة، لا الانحصار في وهم نقاء وصفاء العربية، وإنما اعتبار التداخل بين اللغتين، بصفة كل منهما حمَّالة لفكر إنساني وليس لوثوقية متعصبة (وهم القطر أو الوطن أو الأمة).ما يجب هو إعمال التكامل بين التعريب والترجمة.
– وازيت بين ترجمة الإبداعي متمثلا في جنس الرواية، والفكري مجسدا في العلوم الإنسانية. أين يكمن الفرق في نظرك؟ أو بمعنى آخر: أين تجد ذاتك أكثر؟
بالتأكيد هناك فرق من زاوية الانتماء الأجناسي، لكن مرة أخرى أحب النظر إلى المسألة من زاوية الوصل لا الفصل. والجامع بين ترجمة الرواية، مثلا، والبحث الفكري هو وضع القارئ الذي يؤول السياقات اللغوية والفكرية والثقافية. المترجم قارئ موسوعي بامتياز. إذا كان فهمنا للرواية يصدر عن اعتبارها جنسا أدبيا منفتحا غير مكتمل، قابل للتعبير عن مختلف الخطابات، فإن مترجم الرواية لا يسعه التعامل معها بصفتها جسدا لغويا صرفا.عمليا، يصادف المترجم الصعوبات نفسها التي تنتصب أمامه في ترجمة كتاب فكري معين، تضاف إليها الصعوبات المحيطة باللغة المجازية الاستعارية وانزياحاتها الخاصة بجنس الرواية.عمليا، أثناء ترجمة الرواية يجد المترجم كلام الفيلسوف، وكلام المؤرخ، وكلام السياسي، وكلام عالم اللاهوت، إلخ، كما أن مترجم عمل نقدي قد يجد في هذا الأخير مقتبسات من رواية أو قصة أو من نص شعري.
شخصيا، كل ترجمة هي عندي مغامرة، لها مخاطرها الممتعة، أدخل غمار ترجمة الرواية أو العمل الفكري المحض بالاستعداد النفسي عينه. لكن في حالة الرواية دائما أتوقع المفاجآت، لأن الرواية، كما أسلفت، جنس منفتح على العلوم والمباحث والثقافات المتنوعة، وعلى سبيل المثال، يكفي أن تدخل شخصية روائية إلى مطعم أو متجر لبيع الورود أو مصنع، كي
يستعد المترجم لمواجهة ذخائر متشاكلة من الأطعمة والمذاقات والعطور والألبسة والآلات. من هنا استلزام الموسوعية. على أن الدقة مطلوبة في المجالين معا. أما عن أيهما الأقرب إلى القلب، فأعتقد بكل صدق أني أجد متعة في المجالين معا، ما يشبه الانخطاف، إذ بالنظر إلى الكتب التي صدرت لي أو التي قيد الطبع هناك ما يشبه التوازن، وإن كنت قد دأبت منذ ثمانينيات القرن الماضي على نشر الدراسات الفكرية، من نقد أدبي وفلسفة عموما، فقد تخللتها بعض النصوص الأدبية مثل ترجمتي لفصول من رواية نتالي ساروت، «طفولة»، التي لاقت استحسان القراء حينما نشرت في حلقات ذات رمضان من سنوات التسعينيات. أظن أن ممارستي النقد الأدبي كان لها هذا الدور في خلق التوازن لدي؛ وبالتالي فالتصدي للجنسين معا يبدو لي منسجما مع تصوري النظري والجمالي للأعمال باعتبارها في تكاملها، لا في انغلاقها.
– يمكن القول بأنك أوليت آثار ميخائيل باختين اهتماما كبيرا، حيث أقدمت على ترجمة أهم مؤلفاته. ما العوامل التي دفعتك إلى ذلك؟ وهل الحاجة إلى تصورات باختين عن الكتابة واللغة لا تزال قائمة إلى اليوم؟
بالفعل لدي اهتمام بأعمال المفكر الروسي الكبير ميخائيل باختين منذ ما يقارب الثلاثة عقود، أولا، بصفتي قارئا ثم مترجما، إذ كنت قد نشرت ترجمة لدراستين من كتاب «جمالية الإبداع اللفظي» بداية التسعينات، ومنذ ذلك الأوان وأنا أشتغل على هذا الكتاب الذي كان جاهزا للنشر سنة 1997، ولم يكتب له ذلك إلا سنة 2011 بفضل دار دال للنشر والتوزيع (سوريا)، وهو بالمناسبة كتاب يضم أعمال المفكر الروسي التي تمتد على مدى أكثر من خمسة عقود (1920-1974). لقد حرصت على نشر هذا الكتاب لأني وجدت فيه ما يصحح النظرة الاختزالية والتبسيطية التي هيمنت على الدرس النقدي العربي بخصوص هذا المفكر، حيث إن السائد في التمثلات والتطبيقات النقدية العربية لنصوص باختين هو الاختزال والاجتزاء، إذ يتم اختصار أطروحاته الفكرية والنظرية في أطر مرجعية ومدارس نقدية هو أرحب منها ولا تتسع لمفكر أسس نظره على تكامل المعارف وتداخل تخومها. وهكذا يتم حصره، مثلا، في خانات أخرى في «سوسيولوجيا الأدب» أو في «الأيديولوجيا الماركسية» أو غيرهما. بل هناك من يعدد وجوه باختين الكثيرة، حيث يتم ذكر باختين الأيديولوجي والسيميائي وفيلسوف اللغة وعالم الثقافة، أو يتم الاكتفاء بالحديث عن البوليفونية أو الحوارية والظفر منهما بالقشور دون أدنى جهد لتأصيل التصورات والمفاهيم. وترجمتنا تلك كانت تسعى إلى تصحيح تلك الصورة المشوهة والمغلوطة عن مفكر كان المبدأ الأساسي في رؤيته لكل الظواهر هو مبدأ الوصل أو التمفصل، مما يتيح قراءة جديدة للمنجز الباختيني واعتبار المفكر وفكره بالنظر إلى كل تلك الوجوه المذكورة في اتصالها وليس في انفصالها، إذ كيف يعقل حصر مفكر اللا اكتمال والانفتاح والحوارية داخل خانات تحد وتقصي. فكر ينبني على التلاحم لا التنافر، تلاحم الفهم والمعرفة الإدراكية والتبادل اللفظي. الحوار والمونولوغ، المتكلم والمخاطب، الهوية والتعدد، الكوني والمحلي، التلفظ والملفوظ.
على أن المتلقي العربي اكتفى، للأسف، فيما يخص باختين، بما راج في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، ولم يعمل على الإفادة منه مثلما يفعل البحث الأكاديمي الفرنسي، وأضرب لذلك مثال الباحث المجدد المعروف جان ميشال آدم، الذي لا يتوقف عن الاستناد إلى منجز باختين، وإلى «جمالية الإبداع اللفظي» على وجه الخصوص في تدعيم مشروعه النظري، الذي يتمحور حول اللسانيات النصية وتحليل الخطاب، كما في كتابه «أجناس المحكيات.. سردية النصوص وأجناسيتها» (2011) على سبيل المثال لا الحصر. وللقارئ أن يضع الدراسات المتضمنة في ترجمتنا «جمالية الإبداع اللفظي» في سياقها التاريخي ليتبين بعد اطلاعه عليها كم كان باختين رائدا وسباقا في العديد من المباحث المتخصصة، والوقوف عند الراهنية المستمرة لفكر هذا الباحث ومقدار الحاجة الملحة في الفضاء الثقافي العربي إلى الأخذ من معينه الذي لا ينضب. وإيمانا مني بالحاجة الملحة إلى الإفادة من هذا المفكر الموسوعي عمدت إلى ترجمة كتابه «أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية في العصر الوسيط وإبان عصر النهضة»، ثم كتابه «الفرويدية»، وهما معا قيد الطبع. وإذا كانت مكتبات العالم تضم بين رفوفها ترجمات عديدة لمؤلَّفه عن رابليه بلغات مختلفة، فإن المكتبة العربية والحقل النقدي العربي ظلا ينهلان مما جادت به تلك المكتبات في صورة مقتبسات من هنا أو هنا، مع ما يحمله ذلك الفعل من اختزال، بل تعسف. ولهذا السبب أصبح من الضروري الاعتماد على ترجمة عربية كاملة لهذا المرجع الذي ما للناقد من محيد عنه. أما كتابه «الفرويدية» فسيظهر للقارئ العربي أن ميشال أونفري، الذي تصدى لسيجموند فرويد في كتابه «أفول صنم، الأكاذيب الفرويدية» (2010)، كان له سلف سبقه إلى إظهار تهافت الفرويدية، سنة 1927، ولعل في ذلك دليل آخر على نبوغ المفكر الروسي، الذي كان ولا يزال سباقا إلى العديد من المقاربات النظرية الرصينة.
– هناك آثار أدبية وفكرية عالمية ترجمت أكثر من مرة، فهل تجد مبررا مقنعا لذلك؟
قد تتم إعادة ترجمة الكتاب الواحد لسببين: أولهما يتصل بجودة الترجمة، إذ حينما يكون النص المترجم معيبا، فإن إعادة الترجمة ضرورية حينها، والعيب قد يتصل بالكم أو بالكيف، أو بهما معا، إذ هناك ترجمات تحافظ على العنوان الأصلي للنص، في حين لا تضم سوى جزء منه، وهناك من المترجمين من يعمل المقص حاذفا ما عجز عن ترجمته أو ممارسا رقابة ما عما لا يتفق وأهواءه. وثانيهما قد نجد تبريرا له في المسافة الزمنية بين إنتاج النص و تلقيه، وإن كنت لا أتفق كثيرا مع هذا المسوغ. صحيح أن للتاريخ فعله في تغير التلقي، لكن إذا كانت الترجمة الأولى جيدة لا أجد مبررا مقنعا لإعادة الترجمة، اللهم لأسباب تتعلق بالناشرين وذوي الحقوق وغيرها من الذرائع التي لا تدخل في صميم عمل المترجم.
– أنت تكتب على السواء النقد الأدبي، فكيف ترى واقع النقد الأدبي العربي اليوم؟
بعد فترة الانبهار بالنقود الغربية، الشكلانية والبنيوية عموما، التي عمَّرت لما يفوق ثلاثة عقود، يبدو أن النقد الأدبي العربي قد تخلص من سطوة شبكات القراءة الجاهزة، التي كانت تجعل مقاربة النص ذريعة لاستعراض وإسقاط مفاهيم و تصورات نظرية أو فنية وجمالية. وبعد أن هدأت هذه الفورة، وأصبح الاهتمام بالنص فيما يميزه نوعيا وأجناسيا وموضوعاتيا، نشهد اليوم انبهارا بموجة أخرى من النقد، هي النقد الثقافي، أو الذي يستند إلى مرجعية العلوم الاجتماعية والفلسفية، وكأننا استبدلنا مقولات الشكلانية والبنيوية وجمالية التلقي بالنقد الثقافي القديم الجديد؛ وكأننا لا نمتلك ما يكفي من الجرأة للقيام بعملية الوصل، وصل في الزمنية الكبرى، أي النقد العربي المتعارف عليه بالقديم، واستلهام منجزات تراثنا النقدي العربي القديم الطموحة، وليس تكرارها، ولعل المسعى الجسور للناقد العراقي عبد الله إبراهيم يسير في هذا الاتجاه، ربط الماضي بالحاضر. قد لا يصيب في كل استنتاجاته، لكن له بالتأكيد أجر الباحث المغامر الذي لا يستكين إلى الجاهز؛ أو في الزمنية الصغرى، وأقصد بذلك الوصل بين المنجز النقدي في عصرنا الحالي عند عبد الفتاح كيليطو ومحمد مفتاح وسعيد يقطين، مثلا، وأبحاث عبد الكبير الخطيبي ومحمد جسوس وعبد الله حمودي وطه عبد الرحمان، على سبيل المثال لا الحصر، في الحالة المغربية التي قد نقيس عليها ما يعيشه النقد العربي عموما. والحاصل أن النقد عندنا نقود جُزُر منفصلة، كل يشتغل في مجاله، ولا ينظر إلى ما يستجد في المباحث الأخرى، وبالتالي فإن النظر النقدي يقصر عن الرؤية إلى العمل الأدبي بصفته، أولا وقبل كل شيء، أثرا لنشاط لفظي إنساني رهين سياقات اجتماعية، اقتصادية، وسياسية. لا أعرف إن كانت الشروط الموضوعية لمثل هذا المشروع المنفتح قد نضجت بعد، لكن ألا يجدر بنا أن نعمل في اتجاه تكامل المعارف، التي ستكون ثمارها على الأقل من بيئتنا، وليس الاستمرار في التعيّش على ما ينتجه الغرب، كلما لفَظَ منهجا هرعنا إليه نقتات من فتاته؟ هذا لا يعني الانغلاق، لكن ألم نجرب ما جادت به علينا المكتبات والجامعات الغربية؟ لِمَ لا نستلهم السيرورة الإبستيمولوجية لتطور تلك النقود والنظريات الغربية وتمازجها ونشتغل على منجزاتنا، بما لها وما عليها.
– هل ثمة آفاق مستقبلية للترجمة في العالم العربي؟ وما مشاريعك القادمة؟
ظاهريا، يبدو كأن هناك صحوة يعرفها مجال الترجمة عربيا، وهي نابعة من استشعار تخلفنا عن باقي العالم، والأمر لا يعدو كونه تعبيرا عن حاجة ملحة إلى جسر الهوة الشاسعة بيننا وبين الآخر، لكن الحقيقة أن واقع الترجمة عربيا لا يختلف عما يعرفه ترويج المؤلف المكتوب بالعربية أصلا لأن تدارك التخلف في هذا المجال أخذ شكل التصدي الكمي ولم يعر مقياس الجودة أي بال. الكثير من الترجمات، وهي بالمناسبة لا تغطي كل أجناس وأنواع المؤلفات (علوم إنسانية، علوم حقة، فنون، وغيرها)، هي تغيير في اتجاه كتابة الحروف، من اليسار إلى اليمين، لا أكثر. كما أن المؤسسات التي تعنى أصلا بالترجمة (المعاهد والمدارس) تخرج أفواجا من المترجمين، لكن قلة منهم هي التي تعمل في المجال، أما البقية فموظفون مثل كل الموظفين في القطاعات الأخرى. صحيح أن بعض المؤسسات المدعومة من قبل جهات رسمية أو خاصة تعمل على تدارك التأخر الحاصل، لكن ذلك الأمر صاحبه تهافت غير ذوي الخبرة، مما نتج عنه إفساد قيمة النص المنقول أكثر من تقديمه للقارئ العربي في صورة مقبولة. وهذا التهافت قد يطول، ذلك أن الإغراءات المالية تجعل بعض المترجمين، سامحهم الله، يسيئون بصنيعهم ذاك إلى صورة العمل الترجمي، فضلا عن الإساءة إلى النص الأصلي ودار النشر. هناك بالطبع معاهد تعنى بالترجمة وتقدم أعمالا رصينة، لكنها تظل حبيسة رفوف خزاناتها، وإن خرجت إلى فضاء التلقي تنقصها جودة الورق مثلا، أو جمالية الغلاف، فالكتاب قبل كل شيء سلعة، وبالتالي فإن ترجمات هذه المعاهد الأكاديمية لا تخلف أثرا في سوق الكتب المترجمة. وفيما يخص الآفاق، فالبقاء للجودة وللحرفية والدقة العلمية، «أما الزبد فيذهب جفاء».
وفيما يتعلق بمشاريعي القادمة، أشتغل الآن على رواية لجلبير سينويه، وعلى المدى القريب هناك ترجمة لكتاب فلسفي آخر للمفكر الروسي ميخائيل باختين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.