مقدمات ربطت بيني وبين الإمام الشهيد حسن البنا في الفترة من 1938 إلى 1948 علاقة فريدة، فيها شجا وشجو، وائتلاف واختلاف، فيها تقدير متبادل. كان الإمام الشهيد هو عميد أسرتنا، وكنا عندما نتحدث عنه نقول «الأستاذ». وقد كان أستاذاً لي بالفعل في السنة الأولى الابتدائية بمدرسة الإسماعيلية. ومع إنني كنت «النقيض الجدلي» له، فإن هذا لم يؤثر على العلاقة بيننا. وكان هناك سبب آخر هو أنني منذ أيامي الأولى رفضت المجتمع البورجوازي، فلم أطمح إلى أن أكون طبيبًا يمضي نهاره في المستشفى وليله في العيادة، أو محاميًا يمضي نهاره في المحاكم وليله في المكتب، لأن مثل هذه المهمة ستستولي على وقتي وتأخذني في دوامتها، في حين أنني كنت أريد أن أكون كاتبًا يمضي كل وقته في القراءة والكتابة، وكان بمكتبة الأسرة من الكتب والمراجع ما يفوق ما ستقدمه لي أي كلية. فانتهزت فرصة شجار حدث بيني وبين مدرس اللغة الإنجليزية وهو إنجليزي خلال دراستي في السنة الأولى بمدرسة الخديوية الثانوية، لأن أرفض الاستمرار في الدراسة، وآثرت نوعًا من البطالة الاختيارية وأمضيت كل الوقت في القراءة والكتابة، حيث صدر لي أول كتاب سنة 1945. ولم تكن عندي مشكلة، فقد كنت أحصل على مبالغ زهيدة لقاء بعض الأعمال العرضية، كالترجمة من الإنجليزية إلى العربية وغيرها. وكانت هذه المبالغ أشبه بمصروف جيب، لأن الأسرة لم تكن لتضيق بي. وهذا الوضع جعل الأستاذ البنا يشعر بنوع من المسؤولية باعتباره الشقيق الأكبر وعميد العائلة، فكان إذا آنس أزمة موشكة يكل إليَّ بعض الأعمال التي يعلم أني أقبلها. وعن هذا الطريق، توليت إدارة مطبعة الإخوان المسلمين في فترتين، كما جعلني سكرتير تحرير مجلة «الشهاب» التي كان يصدرها على غرار «منار» السيد رشيد رضا وشهاب وابن باديس، وكانت هيئة تحريرها تتكون منه رئيسًا ومن الأستاذ سعيد رمضان مديرًا وجمال البنا سكرتير تحرير. رغم أن العلاقة بيننا كانت أشبه بالنقيض الجدلي في الأصل، فإنها كانت وثيقة، وكانت لي تحفظات على سياسة الإخوان بالنسبة إلى المرأة، أو الفنون والآداب، أو الحرية، كنت أدلي له بها وكان يسمعها ولا يعلق عليها وسأوضح في سطور تالية سر ذلك، ولم يحاول أن يضمني إلى الإخوان إلا في مناسبتين: الأولى كان يتحدث فيها عن رشيد رضا وابن عمه الذي كان سكرتيره وحافظ تراثه بطريقة فهمت منها أنه يريد أن أكون كذلك، فصمت، فقد كان عزيزًا عليَّ أن أرفض، كما كان صعبًا عليَّ أن أقبل، وفهم هو بلماحيته الموقف وغير الحديث؛ والمرة الثانية عندما قبض عليَّ البوليس سنة 1946 لأني كنت قد أسست حزبًا باسم «حزب العمل الوطني الاجتماعي» وطبع منشورات في ذكرى الاحتلال البريطاني وقتها، وكنت أشرف على توزيعها. وعندما علم الأستاذ البنا أرسل أحد أعوانه إلى اللواء سليم زكي الذي أمر بالإفراج عني فورًا. وعقب ذلك، قال لي: «أنت تكدح في أرض قاحلة، في حين أن لدينا أشجارًا مثمرة، فتعال معنا»، فقلت له إن ثمار الإخوان ليست هي الثمار التي أريدها، ولم يصدم، وقال لي: «إذن، غير اسم الحزب إلى جماعة حتى لا تصطدم بالسلطة»، وقبلت الفكرة وغيرت الاسم فأصبح «جماعة العمل الوطني الاجتماعي». وكان الأستاذ البنا متابعًا لتقدمي الفكري. وعندما أصدرت رسالة عن المفاوضات التي كانت تجري وقتئذ (سنة 1946) بعنوان «على هامش المفاوضات» وأهديته نسخة منها، قرأها وأعجب بها، وروى لي صديقي الشيخ عبد العزيز الخياط، وزير الأوقاف الأسبق في الأردن، أنه كان وقتئذ يطلب العلم في الأزهر، وأنه زار ومجموعة من الإخوان المرشد فوجده يقرأ في رسالة «على هامش المفاوضات»، وقال لهم: «تعلموا السياسة من هذا الشاب، إن جمال كتب رسالة حسنة عن المفاوضات». وقد أسعدني أني تمكنت من إصدار كتاب «خطابات حسن البنا الشاب إلى أبيه» الذي ترجمت فيه لحياة الوالد، ثم عرضت لعمل حسن البنا في الإسماعيلية والقاهرة من واقع خطابات أرسلها إلى والده، كما أصدرت «ما بعد الإخوان المسلمين» الذي صورت فيه دور حسن البنا في تنظيم الدعوة الإسلامية، وأخيرًا فقد تصديت لعمل عظيم هو إصدار كتاب ضخم تحت عنوان «من وثائق الإخوان المسلمين المجهولة» في 480 صفحة والجزء الثاني من هذا الكتاب في المطبعة، كما ينتظر أن ننشر جزأين أو ثلاثة قبل أن نفرغ من الوثائق المجهولة. ولعلي في هذا قد حققت ما أراده حسن البنا عندما تحدث إليَّ عن رشيد رضا وابن عمه الذي حفظ تراثه. يتبع...