لم يعتقد مارك سوكرسبرغ عندما صمم مشروع الفايسبوك -أو كتاب الوجه كما يحلو لأحد أصدقائي تسميته- مع زملائه في جامعة هارفارد، ليكون قناة للتواصل ما بين طلاب الجامعة، أن هذا الموقع سيغدو، مع مرور الأيام، واحدا من أكبر مواقع التعارف والمجتمعات الافتراضية التي تزخر بها الشبكة العنكبوتية؛ كما لم يخطر بباله أن يتحول هو نفسه، بين يوم و ليلة، إلى صاحب شركة تبلغ أرباحها 300 مليون دولار في السنة وتضم 300 مليون مشترك عبر العالم بمعدل زيادة 200 ألف مشترك يوميا. غير أنه، ووسط هذا النجاح الباهر للموقع منذ انطلاقه قبل 5 سنوات، مازالت انتقادات وأسئلة وإشاعات تحوم حوله وحول المسؤولين عنه والواقفين خلف أجندته المعلنة وغير المعلنة. ولا أخفيكم أنني مستخدم مخلص لهذا الموقع رغم كل ما يقال ويذاع عنه، وذلك لأنني لمست فيه عدة جوانب مهمة تستحق الانتباه وحتى الدراسة، وخاصة في مجتمعاتنا العربية. ولعل أهم هذه الجوانب، بالنسبة إلي على الأقل، هو الجانب السياسي والاعتقادي. فقد أحدث هذا الموقع ثورة في العالم العربي من خلال المساحات الحرة التي يتيحها للشباب للتعبير عن توجهاتهم السياسية واعتقاداتهم بكل حرية -ربما لا توفرها أشد المنابر الإعلامية حرية وليبرالية- خاصة وأن هذه الفئة من الشباب تحس بالتهميش على الصعيد السياسي، حيث إن الواجهة السياسية في العالم العربي يسيطر عليها الكهول من ذوي الآفاق المحدودة والتفكير أحادي الجانب الذي لا يقبل بالرأي الآخر. ولعل الطبيعة الاجتماعية والترفيهية وحتى التقنية للموقع جعلت فئة الشباب تقبل عليه أكثر من إقبالها على المدونات التي تطرح مشاكل سياسية بشكل أعمق وأكثر جدية. كما أن تعدد طرق التعبير -التي تكفي فيها النقرة على الشاشة- من صور وأشرطة فيديو وحتى روابط إلكترونية أدمجت الكثير من الشباب وأعفتهم من عناء البحث عن التقنية والمساحة والوقت؛ فقد أصبح الموقع، بفضل التقنية، ساحة للحوارات الجريئة وتبادل الآراء في التوجهات والتطورات السياسية المختلفة بل وحتى الظواهر الاجتماعية، فيكفي للمستخدم أن ينشىء مجموعة أو ينشر مقالا أو شريط فيديو حول موضوع يهمه حتى تنهال عليه التعليقات والمشاركات التي ربما تشاركه نفس رأيه أو تخالفه. شخصيا، تصلني يوميا عشرات الدعوات من مجموعات وأفراد للانضمام إليهم في النقاش حول موضوع معين قد تكون له علاقة بالسياسة أو بالدين أو بالمجتمع أو يكون أحيانا ذا بعد إنساني. قبل الفايسبوك، كانت حرية تداول الرأي السياسي والمجتمعي مقتصرة على قلة من المواقع الإلكترونية والمدونات ولم تكن تلقى الانتشار المطلوب بين أوساط الشباب لاقتصارها على نخبة معينة؛ لكن وبفضل البعد الاجتماعي لهذا الموقع، أصبحت حرية التعبير والمشاركة الفاعلة متاحة للجميع. غير أنه يجب على المرء، من جانب آخر، ألا يغفل أن لهذه الحرية ثمنا وضريبة باهظة أحيانا؛ فكما يمكن للموقع أن ينشر الآراء والتوجهات السياسية التي تنطوي على شيء من الواقعية في النقاش والعقلانية في الحوار والالتزام في التعبير، فهي أيضا وبنفس الزخم يمكن أن تنشر العدمية والكراهية والعنصرية والتطرف بين أوساط المستخدمين الشباب. فالموقع يزخر بالمجموعات التي تروج للعنصرية بل وتكرم مجرمي الحرب والقتلة ومرتكبي المجازر، كما أن هناك الكثير ممن يتفننون في نشر الإساءات المغرضة والعنصرية ضد كل ما هو قيمي أو أخلاقي أو مقدس من الإهانة للكتب السماوية والأنبياء إلى السخرية من الرموز والشعائر التعبدية.