شكلت جلسة انتخاب رئيس مجلس المستشارين لحظة فاضحة للاختلالات التي تطبع الحياة السياسية ببلادنا، وأسوأ ختام لمسلسل انتخابي كانت سمته الرئيسة الرتابة والعزوف طيلة كل مراحله. تحللت الأغلبية الحكومية، في هذه الجلسة، من كل التزاماتها وتنكرت لتضامنها المبدئي وكرست ما تنعت به من كونها أغلبية هشة ولا رابط بين مكوناتها وتفتقد قائدا ينسق جهودها ويضبط وجهتها. وبالمقابل، ظفر حزب من المعارضة بمقعد رئاسة الغرفة الثانية، مغتنما هذا التشتت ومستفيدا من أصوات مستشارين في الأغلبية الحكومية. من حيث المبدأ قد نتفهم عدم توصل مكونات الأغلبية إلى موقف موحد وكذا عدم اتفاقها على مرشح وحيد يمثلها، لأن عدم الانسجام وضعف التنسيق هو سمتها الأساسية؛ ولكن المنتظر حينها هو تحفظ غير المتفقين على التصويت، وهذا أقصى ما يتصور في لعبة سياسية منطقية تحترم الرأي العام.. وحتما لن يصل الاعتراض إلى حد منح الصوت للمعارضة لأن في هذا السلوك زلزلة لأركان الأغلبية وإدخالا للبلاد في أزمة سياسية. وهذا خط أحمر. وقد نتفهم تلك المزايدات السياسية بين مكونات الأغلبية، سواء من خلال الإعلام أو الخطابات أو اللقاءات الحزبية، لأن الأمر يرتبط أحيانا برغبة في الضغط أو تحسين التموقع داخل الائتلاف الحكومي أو جلب مكاسب أو إرضاء القواعد الحزبية أو تصفية حسابات.. ولكن حتما لا يتصور أن تصل حدة المزايدات إلى حد التحلل من كل الالتزامات الأخلاقية والسياسية والمبدئية التي تفرضها ضرورات الانضباط للبرنامج الحكومي. انقسام الأغلبية أكد ما يروج حول ضعف الوزير الأول وعجزه عن تدبير خلافات مكونات حكومته، وأعاد إلى الذاكرة حدود السلطة التي يتمتع بها، وهو الذي لا يعتبر، بنص الدستور، سلطة رئاسية لوزرائه وإنما يعتبر منسقا للعمل الحكومي فقط، أو كما يقول الفقهاء الدستوريون «هو بمثابة الأخ الأكبر لوزراء حكومته»!. ما حدث أثناء هذه الجلسة سلوك آخر يعصف بتفاعل المواطن مع قضايا الشأن العام ويضعف ثقته في الساسة ويقوده إلى مزيد من العزوف واللامبالاة واليأس، بل إنه يشكك المهتمين والمتخصصين في قدراتهم المعرفية والمنهجية لأنه يسقط في أيديهم كل ما تلقوه في علوم السياسة. ولتفسير هذه العجيبة حاولت بعض الأقلام، كعادتها، التنقيب في التاريخ والتجارب لعلها تجد سابقة مماثلة. وهكذا، تحدث البعض عن حالات مشابهة في برلمانات البلدان الديمقراطية حيث تترأس أحيانا المعارضةُ المجلسَ الثاني، متناسين أن هذا المجلس في تلك البلدان لا يتمتع باختصاصات واسعة مثل تلك التي يتمتع بها مجلس المستشارين في بلدنا، وفي مقدمتها حق إسقاط الحكومة وتعطيل المسطرة العادية للتشريع كما حدث مع مدونة السير، خاصة وأننا حديثو عهد بهذا المثال. وهناك من تحدث عن سابقة ترؤس جلال السعيد لمجلس المستشارين وقد كان حزبه الاتحاد الدستوري في المعارضة، متناسين الظروف والسياقات التي سادت تلك المرحلة التي طُبعت بضمانة ملكية لعبد الرحمن اليوسفي للحيلولة دون فقدانه أغلبيتَه العددية الهشة، وكذا عدم تعرضه لملتمس رقابة، ولذلك فهؤلاء المحللون يضفون على مرحلتنا هاته نفس صفات المرحلة السابقة ضاربين عرض الحائط بأكثر من عقد من الزمن ظُنّ أنه كان عقد انتقال نحو الديمقراطية، ويؤكدون أن لا منهجية ديمقراطية تسود وأن الأمور ما تزال تسير بالتوافق. ثم إنهم يصنفون، من حيث لا يدرون، معارضة الأصالة والمعاصرة في خانة معارضة الاتحاد الدستوري، ولا نحتاج أن نذكر بسياق تأسيس هذا الحزب ووظائفه ومآله. إن هؤلاء، بتحليلهم هذا، يحكمون على الأصالة والمعاصرة بالزوال القريب ويؤكدون أن لا قيمة نوعية أضافها إلى المشهد السياسي. وهناك من ربط الانتخاب بتقوية الموقع التفاوضي للمغرب حول مقترح الحكم الذاتي لأنه سيعزز الوفد المغربي بشخص صحراوي منتخب ويحتل موقعا متقدما في الهرم التراتبي للبلاد.. وهذا تحليل مردود على أصحابه لأنه كان يمكن تحقيق هذا الأمر باختيار شخص من الأغلبية يتمتع بنفس المواصفات. وهناك من ربط هذا الانتخاب بمحاولة استباقية للضغط على الأحزاب التي تضع رجلا في الحكومة وأخرى خارجها، وخاصة الاتحاد الاشتراكي الذي يستعد لعقد مجلسه الوطني المطروحة على جدول أعماله نقطة الموقف من المشاركة في الحكومة.. ولا نحتاج إلى التذكير بأن هذا ليس حلا مناسبا. سيخضع المجلسان للاختبار في أقرب فرصة، وهي مناقشة قانون المالية والتصويت عليه، وسيُمرر بالتأكيد هذا المشروع، وحينها سنكتشف أن المستشارين الذين صوتوا لصالح مرشح المعارضة عادوا إلى أغلبيتهم وأن فريق الأصالة والمعاصرة صوت ضد المشروع. وهذه خاصية لا توجد إلا في المغرب! وقد يصوت الأصالة والمعاصرة لصالح المشروع، وفي هذه الحالة تنتفي عنه صفة المعارضة. وقد نشهد تعديلا حكوميا جديدا يرجع الأصالة والمعاصرة إلى مكانه الطبيعي وسط الحكومة، إذ لا يعقل أن يكون الحزب الذي يقدم نفسه مدافعا عن المشروع الحداثي الديمقراطي للملك معارضا لحكومة تحظى بثقة الملك بأشخاصها وبرنامجها. هي فعلا طلاسم يعجز عن فكها فقهاء السياسة، ولكنها تؤكد حقيقة واحدة هي استمرار العبث السياسي في وقت تتعالى فيه صيحات التخليق. والأكيد أن ما سبق يدفعنا إلى بسط قضية محورية للنقاش العمومي، وهي التي تتعلق بوظيفة المعارضة وحقيقتها في المغرب، حيث نعيش وضعا شاذا يتمثل في وجود نوعين من المعارضة، معارضة رسمية من داخل المؤسسات الرسمية، وأخرى من خارجها. تقتصر المعارضة الرسمية على معارضة حكومة لا تصنع الاختيارات الكبرى ولا ترسم السياسات العمومية ولا تضع البرامج، ولذلك تبقى حركتها بعيدة عن تأطير الشعب والتأثير في صناعة القرار، والأكثر من هذا أن اختيار موقع المعارضة يكون اضطرارايا، والجميع يلاحظ تسابق كل الأحزاب على الانضمام إلى الحكومة كيفما كان برنامجها وتركيبتها. بينما تلجأ المعارضة غير الرسمية إلى واجهات أخرى للتعبير عن معارضتها الجذرية، ولكنها تبقى محدودة التأثير بسبب ضعف الإمكانيات وحرمانها من وسائل التواصل المتاحة (الإعلام العمومي، الفضاءات العمومية،...). والنتيجة فراغ سياسي قاتل وتشتت مضعف لكل الفرقاء وعزوف شعبي، وهذه كلها أعراض لمرض مزمن يتهدد مستقبلنا السياسي، ولا مخرج منه إلا بإعادة ترتيب الأوراق على أساس قوي وسليم لتصبح الساحة السياسية مفتوحة وقواعدها متفق عليها، وحينها سيحكمها منطق مقبول ومُغْر بالمتابعة.