يحتضن حي ظهر المهراز، وهو من أكبر الأحياء الصفيحية بفاس، ما يقرب من 5 آلاف عائلة أغلب معيليها من متقاعدي الجيش. وقصة كل عائلة في هذا الحي تكاد تشكل مأساة إنسانية لرجال خدموا الوطن في صحرائه، وبعضهم أصيب بعاهات مستديمة قبل أن يرمى بهم وهم في سن متقدمة، وفي وضع صحي متدهور إلى “المجهول” بمعاشات لا تكفي لسد أدنى احتياجات تحفظ الكرامة. غادر محمد برطال صفوف القوات المساعدة بعدما قضى في صفوفها ما يقرب من 20 سنة، عمل خلالها في كل من بوعرفة وتندرارا وتالسينت وميسور، وأمضى حيزا كبيرا من هذه الخدمة في فاس، قبل أن يحصل على تقاعد حددت قيمته في 14 ألف ريال. ومن المفروض عليه أن يدبر أمر هذا التعويض الشهري لإعالة أربع بنات، إحداهن تتابع دراستها في ماستر الآداب الفرنسية بجامعة ظهر المهراز، والثانية تدرس في السنة الثانية من الجامعة في شعبة الأدب العربي، بينما الثالثة في سنتها الأولى من البكالوريا توجه علوم تجريبية، والأخيرة في سنتها الثامنة من التعليم الأساسي. هذا بالإضافة إلى زوجة هي ربة بيت العائلة، وابن وحيد قرر والده أن يتدبر له وظيفا في نفس سلك «المخازنية» الذي تقاعد منه، خوفا عليه من انحراف وسط حي صفيحي يخرج أفواجا من الجانحين بسبب الأوضاع الاجتماعية وانسداد الأفق. يبلغ برطال 59 سنة، وبالرغم من تقدمه في السن ووضعه الصحي، فإنه اضطر إلى البحث عن «مهنة» أخرى تمكنه من حفظ كرامة عائلته أمام غلاء المعيشة. ولم يقده بحثه المضني عن هذه الحرفة سوى إلى التحول إلى “حارس ليلي” للسيارات بالقرب من الحي الصفيحي ظهر المهراز الذي يقطن في إحدى “براريكه” رفقة عائلته. وتمكنه هذه الحرفة من الرفع من مدخوله الشهري. “في فصل الصيف تتحسن الأوضاع، لكن في الفصول الأخرى تعود الأوضاع إلى مسارها العادي”، يقول هذا “المخازني” السابق الذي اضطر إلى “استجداء” عدد من المسؤولين المحليين الذين يوجد هذا الحي في دائرة نفوذهم لكي يتيحوا له فرصة العمل كحارس بالقرب من ساحة “مسجد الصحراوي”. لكن “صراعا” حول الساحة، نشب بينه وبين شخص آخر، يقطن في نفس الحي لا يتجاوز عمره ال35 سنة، في الأسبوع الماضي، اضطره إلى التنقل، في حالة خطرة، إلى قسم المستعجلات بمستشفى ابن الخطيب بفاس لتلقي الإسعافات الأولية جراء إصابته بضربة سكين على مستوى أذنه. وخاط له الطاقم الطبي حوالي 27 “غرزة” لإعادة وضع أذنه إلى حالته الطبيعية. وحصل هذا المسن على شهادة طبية تحدد مدة عجزه في 37 يوما، وقرر استنفار مؤيديه للقيام بتظاهرة ضد “الانفلات الأمني” الذي يقول إن حيه يعيشه، قبل أن يرتب له لقاء مع والي الأمن، أنهى الأزمة بإصدار تعليمات لإلقاء القبض على الشخص الذي اعتدى عليه والذي صدرت في حقه مذكرة بحث. ويحتضن حي ظهر المهراز، ما يقرب من 5 آلاف عائلة، أغلب معيليها من متقاعدي الجيش. ويعيش هؤلاء أوضاعا اجتماعية صعبة. وأحسنهم حالا لا يتجاوز معاشه مبلغ 1500 درهم في الشهر. ودفعت هذه الأوضاع عددا منهم إلى المشاركة في احتجاجات تطالب بتحسين معاشاتهم السنة الماضية. وقوبلت هذه التظاهرات باستنفار أمني ولم يفتح أي حوار مع «قادتهم» الذين فضل بعضهم أن يلتحق بحزب الأصالة والمعاصرة ويترشح في الانتخابات الجماعية. ولا يهتم محمد برطال كثيرا بأي نقاش حول المؤسسات والجمعيات التي يمكنها أن تفتح أبوابها للمتقاعدين لكي يمضوا أوقات فراغهم الطويلة بها، لأن كل ما يهمه هو أن يحسن دخله من أجل الاستمرار في إعالة أسرته وحفظ كرامته. وإذا كان هذا «المخازني» السابق قد وجد فرصة العمل ك«حارس ليلي» بالقرب من محل سكناه، ودخل في صراعات مريرة من أجل الحفاظ على هذه الفرصة، فإن بعض هؤلاء المتقاعدين، وبسبب صعوبة الوضع الاجتماعي، يضطرون إلى الابتعاد عن الحي لكي يمارسوا مهنة التسول، بعدما بحثوا، دون جدوى، عن شغل مهما تفهت قيمته من شأنه أن يدعم معاشهم الهزيل. واختار آخرون التحول إلى باعة متجولين، عدد منهم يضطرون يوميا إلى «التفاوض» مع دورية «المخازنية ومعهم عون سلطة لكي يغضوا الطرف عن سلعهم التي ينشرونها غير بعيد عن محلات سكناهم بهذا الحي نفسه. وإلى جانب هذه المهنة، يمارس البعض الآخر منهم مهنة «حمال» والبعض الآخر مهنة «بائع التبغ بالتقسيط». أما المحظوظون منهم فهم الذين يجدون فرصة عمل كحارس ليلي لدى إحدى الوداديات السكنية، أو سائقا لدى شركة من الشركات التي تحتضنها المنطقة الصناعية سيدي ابراهيم. ومن الحالات الاجتماعية الصعبة التي يتحدث عنها المتقاعدون في هذا الحي، في جلسات ل«تبادل العزاء» والتي يحتضنها مقهى بسيط بالقرب من حيهم، حالة «عمرو. ط» والذي جاوز عمره ال80 سنة وله 6 أبناء كلهم عاطلون عن العمل. ويعاني هذا المسن، الذي تقاعد من الجيش، من مرض عضال، ويتقاضى معاشا لا يتجاوز 850 درهما، عليه أن يشتري به الأدوية وأن يصرف منه على بيته. وبسبب قلة ذات اليد، فإن هذا المسن لا يواظب على شراء أدويته. ويعيش أبناء هؤلاء المتقاعدين انسداد الأفق. ويعاني عدد كبير منهم من البطالة المستديمة، ولا يجدون أمامهم، لنسيان مرارة الأوضاع الاجتماعية للعائلة في «براكة» ضيقة تفتقد لأدنى شروط العيش الكريم، سوى تدخين لفافات الحشيش و«شم السيليسيون». ويحول الإدمان على المخدرات عددا منهم إلى منحرفين يعترضون سبيل المارة، من الطلاب والطالبات في هذا الحي، وذلك إلى جانب الاعتداء على بعض ساكنة الحي من الذين لا يملكون أي إمكانية للدفاع عن أنفسهم. وتمس هذه الاعتداءات بعض المتقاعدين ممن ذهبت السنون بصحتهم. أما بلقاسم الإدريسي الأزمي، والذي أمضى 13 سنة من الجندية، وبالرغم من أنه يدخل نفسه ضمن خانة المتقاعدين من مؤسسة الجيش، فإنه لا يتقاضى أي معاش. ويبدو أن إجراء قام به للتحرر من العمل بهذه المؤسسة هو ما حرمه من هذا المعاش. ولم يتقاض، بعد مغادرته لسلك الجندية، سوى مبلغ مالي إجمالي قيمته 7 آلاف درهم. ويسكن هذا الجندي السابق، الذي أمضى كل فترة تجنيده في الصحراء، في نفس الحي، ويعمل كمساعد تاجر في محل متخصص في بيع المتلاشيات. ويضطر إلى «التعايش» مع منحرفين يطالبونه يوميا بإتاوات تحت التهديد باستعمال السلاح الأبيض. ويدفع لأحدهم كل يوم خمسة دراهم. لكن تماطله في الدفع في الأسبوع الماضي عرضه لاعتداء من قبل أحد المنحرفين الذي وجه إليه عدة ضربات بالحجارة إلى فمه وبطنه وعالجت الإصابات من لدن طبيب عمومي، وحصل بدوره على شهادة طبية تثبت مدة العجز في 21 يوما. وشارك بدوره في لقاء مصغر عقده والي الأمن، محمد عروس، مع ضحايا الاعتداءات في حي ظهر المهراز. وأدى تحريك ملفه إلى اعتقال المعتدي، وهو شاب يتهم كذلك بارتكاب سرقات تحت التهديد باستعمال السلاح الأبيض. وتعتبر حالة محمد الرامي، الذي فر من الجندية بعدما أمضى 24 سنة من الخدمة أغلب فتراتها وسط رمال الصحراء وفي خطوط الدفاع، من الحالات القليلة التي تتقاضى معاشا يبلغ 1500 درهم في الشهر. ومع ذلك، فإن هذا الجندي السابق الذي عمل عدة مرات ولفترات متقطعة في غينيا الاستوائية وغادر الجيش بسبب ضغوطات تعرض لها من قبل أحد رؤسائه السابقين، يتحدث عن كون فئة متقاعدي مؤسسة الجيش تعد أكبر شريحة تتعرض للظلم والإهمال من قبل المسؤولين، بالرغم من الخدمات التي أسدوها دفاعا عن حوزة الوطن.