وجهت الحكومة السورية لطمتين قويتين إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس ونهجه السياسي، الأولى عندما أصدرت بيانا قويا «استغربت فيه قيام السلطة الفلسطينية بتأجيل التصويت على قرار غولدستون الدولي بشأن جرائم الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة»، والثانية عندما اعتذرت عن عدم استقباله، أي الرئيس عباس، الثلاثاء في دمشق، مثلما كان مقررا في السابق. الحكومة السورية تجنبت، طوال السنوات الماضية، قطع شعرة معاوية مع السلطة الفلسطينية في رام الله، رغم اختلافها الكبير مع نهجها السياسي، وظلت تتعامل معها كممثلة للشعب الفلسطيني، وحرصت دائما على استقبال الرئيس محمود عباس في العاصمة دمشق، وعلى أعلى المستويات، ولم ترفض له طلبا في هذا الإطار. السؤال الذي يطرح نفسه هو عن أسباب حدوث هذا التغيير المفاجئ في الموقف السوري، والتعبير عنه بهذه الصورة القوية التي تذكر بالعهود السورية السابقة، عندما كانت دمشق تقود جبهة الرفض العربية لكل المشاريع الاستسلامية وفق أدبيات السياسة والإعلام السوريين في حينها. الأمر المؤكد أن القيادة السورية، التي تنتمي إلى معسكر «الممانعة» وتستضيف على أرضها فصائل المقاومة الفلسطينية، بدأت تشعر بأن الرئيس عباس والمجموعة المحيطة به تماديا كثيرا في تنازلاتهما للطرفين الإسرائيلي والأمريكي؛ وعندما بدأت هذه التنازلات تتناول مفاصل استراتيجية مهمة، تؤثر على الثوابت العربية وأسس الصراع العربي الإسرائيلي، وجدت أن الصمت على نهج الرئيس عباس أصبح يعطي نتائج عكسية تماما، من حيث تشجيعه على المضي في هذه التنازلات. الرئيس عباس استخدم علاقته بسورية وزياراته المتكررة لها كغطاء لتبرير تنازلاته هذه، من خلال الإيحاء بأنه يحظى بدعم القيادة السورية ومباركتها، الأمر الذي أوقع هذه القيادة في تناقض كبير أمام مواطنيها أولا، وغالبية العرب المتألمين من الانحرافات الرسمية الفلسطينية. فكيف تتعامل هذه القيادة بصلابة مع تيار الرابع عشر من آذار اللبناني الذي يرفض مجرد اللقاء مع الإسرائيليين ناهيك عن التفاوض معهم، بينما تفرش السجاد الأحمر للرئيس عباس الذي يلتقيهم بالأحضان، ويتخلى عن كل المحرمات الفلسطينية في مواصلة المفاوضات في ظل استمرار الاستيطان، ويعزز في الوقت نفسه السلام الاقتصادي الذي يطالب به نتنياهو، ويشكل قوات أمن مهمتها حماية الاحتلال ومشاريعه؟ موقف الرئيس عباس الأخير المساند لتأجيل التصويت على قرار «غولدستون» بشأن جرائم الحرب في غزة كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، ودفعت صاحب القرار السوري إلى التحرك بحزم ليقول «كفاية» للرئيس عباس ونهجه، وإن الكيل السوري قد طفح ولم تعد هناك أي مساحة للمجاملة أو التحمل. الرسالة السورية هي الأقوى منذ سنوات طويلة في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وسيكون لها مفعول الردع الكبير المنتظر لقيادة السلطة التي انتهكت الكثير من الخطوط الحمراء، واعتقدت أنها يمكن أن تستمر في النهج نفسه. المأمول أن تقتدي دول أخرى بهذا الموقف السوري، لأن الصمت يصب في خانة التواطؤ مع مشروع قادم لتصفية قضية العرب الأولى.