كان قدامى الشعراء العرب مثل محبي اقتناء التحف الفنية في المزادات العلنية، التالي يدفع أكثر من السابق. وكانت هناك مشكلتان أو ثلاث أمام كل شاعر جديد، الأولى أن يأتي بنظم أحسن من شاعر يجايله، والثانية أن يتفوق على من سبقوه. وإذا ما كان الشاعر جزءا من صراع قبلي فإنه يواجه مشكلة ثالثة، وهي أن يغلب شاعر القبيلة المناوئة، من خلال الإتيان بصور شعرية وتعابير أكثر جودة وصنعة. ولقد فهم أبو العلاء المعري قانون اللعبة هذا، مع أنه كان غاضبا على كل شيء وكارها لكل شيء، فقال متحديا الجميع إنه قادر على أن يأتي بأحسن مما أتى به كل الذين سبقوه: وإني وإن كنت الأخيرَ زمانُه لآت بما لم تستطعه الأوائل أما عنترة بن شداد، الجاهلي، الذي يُرْوى أن الرسول (ص) قال فيه: «ما وُصف لي أعرابي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة»، فقد لاحظ أن الشعراء الذين سبقوه، حتى قبل النهضة الكبرى للشعر في العصرين الأموي والعباسي، لم يتركوا للاحقين شيئا، فقال في لهجة استنكار: هل غادر الشعراءَ من متردم أم هل عرفت الدار بعد تجهم؟ وقد طور منطق الصراع هذا صرح الشعر العربي القديم، حتى قيل إن الأولين لم يتركوا للآخرين شيئا. وما إن جاء العصر العباسي، الذي تجمع فيه الفحول، حتى وصل العطاء الشعري إلى ذروته، وبدأ الشعراء يتسابقون حول أي منهم يأتي بأفضل من السابق في العبارة والصورة والمعنى، فإن قال أبو الطيب المتنبي، شيخ الشعراء العرب: الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم قال أبو تمام: البيد والعيس والليل التمام معا ثلاثة أَبدا يُقرَنَّ في قَرَن وقال البحتري: اطلبا ثالثا سِوَاىَ فإِنِّي رابعُ العِيسِ والدجَى والبِيد. وما شغل النقاد العرب القدامى أنفسهم بشيء مثلما شغلوها بإحصاء السجال والتسابق بين أبي تمام والبحتري في نظم الشعر، وهو جهد لا يوازيه سوى الجهد الذي صرفه هؤلاء النقاد في تعداد مثالب وسقطات شيخ الشعراء، الذي لو اتخذ كافور الإخشيدي لنفسه مؤرخين رسميين ما بقي مما كتبوه شيء مثلما بقي ما قال فيه المتنبي. وقد خصص الآمدي كتابا ضخما للرجلين أسماه «الموازنة بين أبي تمام والبحتري»، والصولي «أخبار أبي تمام»، وأظهر كل واحد حالات «المواخذة» بين الإثنين، أو أخذ كل واحد من الآخر وصوغ نظم شعري مغاير. فإن قال أبو تمام: تفيض سماحة والمزن مكد وتقطع والحسام العضب نابي قال البحتري: يتوقدن والكواكب مطفاة ويقطعن والسيوف نوابي وإن قال أبو تمام: وتشَرِّف العليا وهل من مذهب عنها وأنت على المعالي قيم قال البحتري: متقلقل الأحشاء في طلب العلا حتى يكون على المعالي قيما وإن قال الأول: ويلبس أخلاقا كراما كأنها على العرض من فرط الحصانة أدرع قال الثاني: قوم إذا لبسوا الدروع لموقف لبستهم الأخلاق فيه دروعا. وبعكس المتنبي، الذي كان يقوم بدور الإعلامي المزعج كطريقة فنية لدفع الأمراء والسلاطين إلى ضخ الأموال إليه لإسكاته، كان أبو تمام مباشرا في حث مخاطبيه من الأمراء والحكام على فتح بيت المال لإعطائه. وذات مرة مدح أبا المستهل محمد بن شقيق الطائي، ويبدو أن أبا المستهل أبطأ عنه طويلا، فاستعجله، وقال في آخر قصيدة مدحه بها، أي في آخر القصيدة وليس في القصيدة الأخيرة: وإياك لا إياي أمدح مثلما عليك، يقينا، لا علي المعول ولا شك أن الخير منك سجية ولكن خير الخير منك المُعجل..