يبدو أن العلاقة بين الدولة وجزء من الصحافة وصلت إلى الباب المسدود. آخر فصول هذه المواجهة وقعت بداية هذا الأسبوع عندما قررت وزارة الداخلية والأمير مولاي إسماعيل متابعة يومية «أخبار اليوم» بسبب رسم كاريكاتوري اعتبره الأمير مسيئا إليه، واعتبرته الداخلية مسيئا إلى العلم الوطني بسبب نجمة داوود التي ظهر نصفها في الرسم. فما الذي وقع حتى تقوم الدولة بالحجز على جريدة وتجمد حساباتها البنكية وتقرر متابعة مديرها بكل هذه التهم الثقيلة؟ كل شيء بدأ عندما نشرت الجريدة المتابعة رسما كاريكاتوريا يظهر فيه الأمير مولاي إسماعيل محمولا فوق «عمارية» وفي خلفية الرسم راية مغربية بنجمة غير مكتملة الزوايا. الذين درسوا المبادئ الأولى للرسم وأخذوا قلما وحاولوا إكمال أضلاع النجمة الناقصة التي نشرتها الجريدة، وجدوا فعلا أن النجمة سداسية وليست خماسية. وبالإضافة إلى نجمة داوود غير المكتملة على الراية المغربية، هناك نجمتان أخريان ثمانيتان هذه المرة مرسومتان على «العمارية»، ومعروف أن النجمة الثمانية في التراث اليهودي تسمى نجمة سليمان. البعض أضاف إلى النجمة السداسية والنجمتين الثمانيتين حركة يد الأمير المرفوعة على شكل تحية نازية. هذا الخليط الغريب وغير الواضح من التحية الألمانية النازية ونجمة داوود غير المكتملة ونجمتي سليمان في رسم واحد، وجد فيه البعض إحالة ملتبسة على جنسية وأصول عروس الأمير مولاي إسماعيل الألمانية. وهذا ما يفسر بلاغ الداخلية الذي قالت فيه: «إن استعمال نجمة داوود في الرسم يثير تساؤلات حول تلميحات أصحابه ويكشف عن توجهات مكشوفة لمعاداة السامية»، خصوصا وأن الرسم جاء متزامنا مع صدور بلاغ قوي للقصر الملكي شجب بشدة اقتحام القوات الإسرائيلية لباحة المسجد الأقصى وباب المغاربة بالقدس. عندما قررت، شخصيا، فصل رسام الكاريكاتير الذي تسبب لجريدته في هذه المتابعة من منصبه كرسام في «المساء» بسبب رفضه إنهاء تعامله مع موقع «بقشيش» الفرنسي المشبوه، حيث كان يرسم سلسلة مصورة يسخر فيها من الملك عنوانها «قصة الملك الذي لم يرغب يوما في أن يكون ملكا»، سجل شريطا ووضعه في موقع «بقشيش» يقول فيه إنني كنت أمارس عليه الرقابة وإنني كنت أمنعه من رسم الملك. الآن ربما سيفهم هذا الرسام أنني كنت أمنعه من رسم الملك أو أفراد الأسرة الملكية لأنني أشتغل في بلاد ينص قانونها على ذلك، ويعرض مخالفي هذا القانون للمتابعة، وهو ما سيتأكد له الآن بالملموس. مشكلة هذا الرسام مع «السامية» ليست جديدة؛ ولعله يتذكر تلك اللحظة التي طلب فيها منه مدير «شارلي إبدو»، الجريدة الفرنسية الساخرة، أن يجمع أغراضه ويغادر مقر الجريدة إلى غير رجعة بسبب مواقفه العلنية من السامية، فقد نسي أن أغلب صحافيي هذه الجريدة الفرنسية هم من أصول يهودية، وهو القرار الذي لم يتردد مدير «شارلي إبدو» في اتخاذه ضد «سيني» أحد أعمدة الجريدة ومؤسسيها، فبالأحرى أن يتردد في اتخاذه ضد رسام مغربي جاء لإمضاء فترة تدريب بتوصية من صحافي مغربي كان أول من اكتشف الرسام وشغله عنده في تركيب الصفحات قبل أن يتعلم رسم خطوطه الأولى بفضل الرسام سعيد أمين الذي رحل مبكرا وهو في أوج عطائه. مشكلة هذا الرسام مع «العمارية» أيضا ليست جديدة، فبسبب «العمارية» تم إغلاق جريدة «دومان» التي كان يصدرها علي المرابط. و«العمارية» التي اعتمد عليها الرسام لفبركة صورته هي نفسها «العمارية» التي جلس عليها الملك خلال حفل زفافه من الأميرة لالة سلمى، فحذف الرسام الملك ووضع مكانه البصري يحمله على أكتافهم اليوسفي ومولاي إسماعيل العلوي ونبيل بنعبد الله وعباس الفاسي، وهم نفس الوزراء الذين حضروا عرس زواج بنت إدريس البصري داخل صالة خاصة وفعلوا المستحيل لكي لا يتسرب الخبر إلى الصحافة. لكن هل هذا الرسم الكاريكاتوري الذي يجمع بين الأمير مولاي إسماعيل والراية المغربية التي تتوسطها نجمة داوود غير المكتملة هو السبب الوحيد في «سوء الفهم الكبير» الذي وقع بين الدولة وجزء من الصحافة. لا أعتقد، فالمتتبعون لما نشر على هامش حفل زفاف الأمير مولاي إسماعيل من صور ومقالات لاحظوا توقف البعض عند إقدام جريدتي «لومتان» و«الصحراء»، التابعتين لمجموعة «مارك سوار» المقربة من القصر، على نشر الصورتين الوحيدتين للعرس اللتين التقطتهما عدسة المصور «لين» وسمح الديوان الملكي بتعميمهما عبر وكالة المغرب العربي للأنباء، حيث يظهر في الصورة الأولى الملك إلى جانب الأمير مولاي إسماعيل وعروسه محاطا بأفراد الأسرة الملكية، بينما يظهر في الصورة الثانية الأمير مولاي هشام وبناته ووالدته لمياء الصلح إلى جانب شقيقه مولاي إسماعيل وعروسه. وفي تعليقه على الصورتين، كتب الصحافي خالد الجامعي مقالا في الجريدة المحجوزة عبر فيه عما سماه الصدمة من إقصاء وإلغاء الأمير مولاي هشام من صورة العائلة الملكية. وأضاف أن القصر، عبر تسريبه لهذه الصورة، أراد أن يبلغ رسالة ما، وهذه الرسالة هي أن هناك خلافات وعداوات وتباعدا في الرؤى لم تعد حبيسة أسوار القصر وإنما تسربت وخرجت إلى العلن عبر هذه «الصورة التمييزية» التي يعتبرها الجامعي مسيئة إلى الملكية و«تدفع إلى الاعتقاد بأن العائلة الحاكمة تعاني من نقص حقيقي في الوحدة، بل في التضامن بين أفرادها، وهذا من شأنه أن يضر باستقرار السلطة، إن لم يكن مضرا بالنظام كله». قبل أن يخلص إلى اتهام الذين قرروا اختيار الصورتين بارتكاب أخطاء أخلاقية وسياسية تكشف عن «جهلهم المطبق بالمجتمع المغربي». وهذه ليست أول مرة ينبري فيها خالد الجامعي للدفاع عن ألبوم صور الأمير مولاي هشام، فقبل ثلاثة أشهر عندما نشرت مجلة «باري ماتش» الفرنسية، بمناسبة الذكرى العاشرة لجلوسه على العرش، صورة للملك محمد السادس وهو طفل إلى جانب الأمير مولاي هشام وأشارت في تعليق الصورة إلى اسم الملك وأغفلت ذكر اسم الأمير، كتب الجامعي مقالا هاجم فيه المجلة هجوما شديدا على هذا الخطأ المبيت. وخالد الجامعي لا يخفي صداقته المتينة مع الأمير مولاي هشام ولا احترامه لثقافته وأفكاره ومواقفه؛ وهذا من حقه طبعا، شأنه في ذلك شأن مجموعة من الصحافيين الذين للأمير أفضال عليهم، فمنهم من تكفل الأمير بإجراء عمليات جراحية لهم، كما هو الحال مع خالد الجامعي الذي تكفل الأمير بدفع مصاريف عمليته المعقدة في باريس، بعد أن رفض قبول تكفل الملك بحالته، أو كما هو الحال مع بعض الصحافيين الذين ساعدهم الأمير بشيكات في بداية مشوارهم المهني واعترفوا في جرائدهم بهذا «الدين» الذي يطوق أعناقهم. وطبعا، عندما يكتب صحافي أو مثقف لا أفضال للأمير عليه مدافعا عنه ضد «التمييز» و«الإقصاء» الذي يمارسه القصر على هذا الأخير، فإننا يمكن أن نعتبر الأمر موقفا محايدا وخاصا. المشكلة تبدأ عندما يكتب عن هذا الموضوع صحافيون للأمير عليهم أفضال و«ديون».. هنا يختلف الأمر، لأن دفاع الصحافي يمكن أن يقرأ كمحاولة لرد الدين؛ وهنا يفقد الصحافي استقلاليته وحياده، ويحشر نفسه في خلاف عائلي محض يجب أن يظل في منأى عن أقلام الصحافيين. فليست المشاكل والكوارث ما ينقص في هذه البلاد حتى يترك الصحافيون كل شيء ويتفرغوا لدس أنوفهم في ألبومات العائلة الملكية ومشاكلها الداخلية التي لا تختلف عن مشاكل أي أسرة في العالم. والنقابة الوطنية للصحافة، ما هو يا ترى موقفها مما حدث. موقفها هو أن الكاريكاتير فن معمول به في كل البلدان، «حيث تستعمله الجرائد في إطار تعليقاتها الساخرة على مسؤولين حكوميين وسياسيين». وهو موقف متناقض من أساسه، خصوصا إذا رجعنا ثمانية أشهر إلى الوراء وقرأنا بلاغا سابقا انتقدت فيه النقابة التي يتزعمها اتحادي واستقلالي لجوء بعض الصحف إلى السخرية من بعض الوزراء والمسؤولين عبر رسومات كاريكاتورية وحوارات وهمية، يعني أن الصحافة ليس من حقها السخرية من اليازغي وعباس الفاسي، لكنها إذا قررت السخرية من أحد الأمراء فليس هناك مشكل. في مقال خالد الجامعي، هناك فكرة نيرة وعلى قدر كبير من النباهة، وهي أن كل العائلات، بما فيها العائلة الملكية، لا تخلو من عداوات وخلافات وتباعد في الرؤى، لكن هذه الخلافات والعداوات وتباعد الرؤى يجب أن تظل داخل العائلة ولا تتسرب إلى خارجها. ولعل أول من يجب عليهم الأخذ بهذه النصيحة هم بعض الصحافيين أنفسهم، والذين لا يتورعون عن «تقطار الشمع» وتنصيب أنفسهم كمدافعين عن الأمير مولاي هشام ضد من يعتبرونهم خصومه داخل العائلة الملكية، معتبرين غيابه عن الصورة الجماعية لعرس شقيقه بمثابة إلغاء لهذا الأخير، مع أن الأمير نفسه أسر إلى إحدى الجرائد التي صدرت ليلة الحجز بأنه هو من قرر، بمحض إرادته، عدم الظهور في الصورة العائلية الملكية الجماعية، وأنه استقبل وودع ابن عمه الملك بنفسه ليلة زفاف شقيقه، وأنه مستعد لفتح حوار لتذويب الخلافات بينه وبين ابن عمه، لكن ليس الآن لأن الظرف الحالي غير موات في نظره. يبدو أن الوقت قد حان لكي يفهم بعض الصحافيين أن مكانهم الطبيعي يوجد داخل حقل الصحافة وليس داخل حدائق القصر وأموره العائلية الداخلية. هناك مثال صيني قديم يقول: «عندما تتصارع الأفيال في ما بينها، فالأفضل لك ألا تكون مكان العشب الذي يوجد تحت أقدامها الثقيلة. وحتى عندما تلاعب الأفيال بعضها البعض عليك ألا تكون مكان العشب»، لأن العشب في كلتا الحالتين هو من يدفع الثمن. أما المغاربة فلديهم حكمة عميقة تقول: «ما يدخل بين اللحم والظفر غير الوسخ».