لا أحد من الآباء يقبل أن يتعرض طفله للاعتداء في الشارع أو لعلقة ساخنة من زملائه دون أن يستطيع الرد، وهذا ما يجعلهم حائرين بين تعويد صغارهم على رد الضرب بالضرب أو العفو عند المقدرة، دون أن يتحول هذا الطفل إلى لقمة سائغة بالنسبة لأقرانه. ولمعرفة الطرق السليمة لتعويد الصغير على حماية نفسه والدفاع عنها التقينا الأستاذ محمد بيدادة، اختصاصي في التربية وعلم النفس، الذي يؤكد أن لتربية الآباء دورا كبيرا في تكوين طفل خنوع لا يدافع عن نفسه، أو طفل لا يقبل الهزيمة أبدا. بالنسبة للطفل الصغير يرتبط تعلم أصول الدفاع عن النفس بمدى قدرة الوالدين على تربيته على تقدير ذاته وحمايتها من كل ما يهدد كرامته واعتباره، ذلك أن الطفل الذي يحمل مفهوما سلبيا عن ذاته، وإحساسا بالنقص وقلة القيمة، قلما يكون في وضعية تخول له الدفاع عن نفسه بالطرق السلمية المشروعة، لكن دون أن يعني تقدير الذات واحترامها احتقار الآخرين والتعالي عليهم وتجاوز الحدود. ومن هذا المنطلق يجب أن يحرص الآباء على إكساب طفلهما عددا من المهارات النمائية التي تؤكد حضوره المتوافق في كل علاقة تفاعلية مع أقرانه، وفي طليعتها الاستقلالية، وإبداء الرأي، والمبادرة، والتفاوض، والحوار، والمواجهة البناءة... وكل طفل يفتقد هذه المقومات لن يستطيع تدبر النزاعات التي تقع بينه وبين أقرانه، أو الاعتداءات التي يتعرض لها، ومن المحتمل أن يرد عن أي إحساس بالظلم أو الاعتداء الذي يتعرض له إما بتقبل الهزيمة المرة والاستسلام للآخر في خضوع تام وتبعية ساحقة، وإما بالرد العنيف موظفا مبدأ «الهجوم خير وسيلة للدفاع». ليس كل الأطفال مؤهلين للدفاع عن أنفسهم حينما تدعو الضرورة إلى ذلك. وهذا العجز يرجع إلى عوامل كثيرة تختلف من حالة لأخرى وبحسب نوعية التدريب الذي تلقاه الطفل تجاه علاقاته الاجتماعية، وأيضا حسب نضجه الانفعالي وقدرته على خوض تجربة التفاعل مع الأقران، ودرجة الاستعداد لمواجهة الصراعات التي تنشأ بين الأطفال واختبار تجربة التشاجر بكل مظاهرها ونتائجها. إن الطفل الذي يخضع للتدليل لا يقدر عادة قيمة الأشياء التي يحصل عليها، فيتعود على أن يأخذها منه الآخرون بأقل جهد، بل يتعود أن يُمس في قيمته واعتباره، فيُضرب ولا يقاوِم، ويُنهر ولا يحتج، إلى غير ذلك من السلوكات التي تؤكد افتقاره إلى المهارات الأساسية المساعدة على تأكيد الذات والدفاع عنها أمام الآخرين. وإلى جانب الافتقار إلى هذه المهارات يمكن اعتبار الخوف من مقاطعة أصدقائه له من العوامل الأساسية التي تفسر سلبية الطفل وعدم دفاعه عن نفسه، خصوصا إذا كان تعلقه باللعب مع الأقران قويا يجعله يخاف إبلاغ أبويه بما يتعرض له من اعتداء حتى لا يوجهان إليه اللوم ويصفانه بالنقص، أو يمنعانه كليا من الخروج لأنه غير قادر على حماية نفسه حتى مع من هم أصغر منه سنا. في هذا الصدد تلعب التربية دورا حاسما في تشكيل نمط شخصية الطفل، لأنها ترسي دعائم الشخصية وتوجه الطفل نحو سلوك محدد، ولا شك أن إلحاح الأسرة، مثلا، على الاحترام المبالغ فيه للآخرين لحد الخنوع، قد يعرض الطفل لكثير من المواقف التي لا يقدر فيها على المطالبة بحقه بل حتى على التعبير عن هذا الحق. كما أن غياب جو الحوار داخل البيت الذي يتعلم الطفل فيه قواعد الأخذ والعطاء وإبداء الرأي واقتسام الأفكار والأشياء، وتأخر خروج الطفل للعب مع أقرانه يفوت عليه فرصا مهمة للتأقلم مع عالم الصغار وما يفرزه ذلك من مشاحنات وصراعات تعطي الأولوية للأطفال الذين سبقوه في ذلك، وبذلك يصبحون أكثر تحكما وتوجيها للطفل حديث التواجد معهم، إلى حد أن هذا الأخير قد يصبح في بعض الحالات لقمة سائغة يتنافس عليها الأطفال «الأقوياء». إن شعور الطفل بأنه مغلوب على أمره وسط زملائه، وأنه عرضة للظلم والاعتداء يترك آثارا نفسية عليه. فإلى جانب الإحساس بالضعف والدونية قد تبرز سلوكات ناجمة عن أحاسيس متناقضة تظهر في كل مرة على شكل ثنائية مريرة. فمن جهة يبرز الشعور بالظلم والاعتداء وضياع الحقوق مقابل الخوف من عقاب الوالدين بالغضب أو بالحرمان من الخروج بشكل نهائي، ومن جهة أخرى تظهر رغبته في الاحتجاج على أقرانه مقابل الخوف من هجرهم له أو تخليهم عنه أو مقاطعته بالمرة. ومن الآثار التي يمكن تسجيلها في هذا المضمار تنمية سلوكات ملتوية يحتمي بها الطفل المتضرر درءا للاعتداء الممارس عليه وكسبا للعطف المنشود، وفي طليعتها مداراة أقرانه واستمالتهم بشتى الأساليب التي قد يصل بعضها إلى مستوى الإغراء بالمال أو ببعض الأشياء الثمينة. إن حث الطفل بكيفية دائمة كي يتعلم هذا السلوك أو يتخلى عن غيره لا يؤدي دائما إلى النتائج المرجوة. وجل الدراسات النفسية والتربوية التي أجريت حول أساليب تربية الطفل تؤكد أن أسلوب الضغط ،والإلحاح اللفظي خاصة، لا يزيد المشكل إلا تشابكا وتعقيدا. فعلاوة على جو التوتر والصراع الذي ينشأ بين الطفل ووالديه، يعمد الطفل إلى الاستجابة للطلب المتكرر بأحد الأسلوبين: إما تثبيت لاشعوري لعقدة النقص فتتأصل في تصرفه العام ويصعب تجاوزها إلا بتدخل منظم من لدن خبير نفسي، وإما بالارتماء في أحضان العنف، فيغدو الآخر بالنسبة إليه عدوا لدودا ينبغي مقاومته بشراسة. والحالتان معا متطرفتان ولا تنمان عن التوجه التربوي السليم، لذا يتعين على الوالدين، عوض الضغط على ابنهما كي يرد العدوان بالعدوان واستعمال القوة، أن يبحثا عما يدفع به إلى الخنوع واتخاذ موقف سلبي من كل ما يحط من قيمته أو يسيء إليه، وأن يحرصا على تدريبه على خوض غمار التفاعل مع أقرانه بمبادرة فردية تحتم عليه مواجهة النزاعات والتعامل مع النتائج بروح رياضية ترسخ لديه الطابع المرن والمتغير للعبة الغالب والمغلوب، بما يجعله يؤمن بأن هذه اللعبة لا تستقر على حال، وأن كل طفل مرشح لأن يخبرها بشقيها مرات ومرات، وبذلك، في تقديري، نساهم في تعليمه كيف يدافع عن نفسه. نصائح للأمهات > إذا تعرض صغيرك لاعتداء لا تنفعلي ولا توجهي إلى طفلك أي لوم أو نقد، استمعي إليه بهدوء وشجعيه ليحكي لك ما حدث، وطمئنيه أنك موجودة حين يحتاج إليك، ساعديه ليتصرف بمفرده وأثني على قدرته في حل الأمر بطريقة سلمية، وأعطيه الأمان والحب وليس التدليل. > يمكنك أن تعلميه بعض فنون الدفاع عن النفس (الكاراتيه – الكونغ فو – الجودو)، > شجعيه على البقاء في الأماكن الآمنة المكشوفة التي بها جمع من الناس فهذا أكثر آمانا له حتى لا يكون فريسة سهلة للمعتدي. > لا تجعليه يخفي الاعتداء عليه كما لو أنه دليل ضعفه لأن هذا يزيد الأمر سوءاً ويزداد الاحتمال بعدم القدرة على المواجهة مستقبلاً. > دعي طفلك خلال المشاكل الصغيرة ليتصرف بنفسه حتى يعتاد التفاوض ورد العدوان والتفاهم والتعامل. لكن في الحالات التي يتعرض فيها لعدوان أشرس من أن يرده بمفرده لا بد من تدخل الكبار. > لا تقولي له اضرب من ضربك أو أسقط من أسقطك لأنك تعلمينه حينئذ منطق الغاب وستكونين أول من يشتكي، لأنه سيطبق عليك نفس القاعدة وهي أخذ ما يتصور أنه حقه بيده.. وعندما يعلو صوته ويقوى ساعده فلن تستطيعي أن توجهيه بأي صورة لأنه قد تعلم أن يستخدم يده في حسم المواقف وألا يحترم نظاما أو قانونا.