لم نستغرب قبول الرئيس الفلسطيني محمود عباس دعوة الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى حضور قمة ثلاثية بمشاركة بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، تنعقد الثلاثاء (22 شتنبر) على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، فالرئيس عباس ليس مثل سلفه الراحل ياسر عرفات الذي كان يقول «لا» كبيرة للقيادة الأمريكية، ودفع ثمنها شهادة مشرّفة، ولكن ما نستغربه هو سرعة «انهيار» الرئيس أوباما ورضوخه المهين لشروط نتنياهو المتصلبة وانسحابه مهزوما من معركة تجميد الاستيطان التي جعلها أحد أبرز العناوين لسياسته الخارجية. استسلام أوباما، بالطريقة التي شاهدناها أمام نتنياهو وحكومته، أثبت أن الأخير، أي نتنياهو، يفهم الولاياتالمتحدة والمؤسسة الحاكمة فيها أكثر من الرئيس الأمريكي نفسه، ولهذا تصلّب في مواقفه ورفض كل «توسلات» الرئيس الأمريكي ومبعوثه إلى الشرق الأوسط جورج ميتشل لتجميد الاستيطان، رغم «المغريات» الكثيرة المعروضة في المقابل، مثل فتح المطارات والأجواء العربية أمام طائرات «العال» الإسرائيلية وفتح مكاتب تجارية ودبلوماسية في معظم العواصم العربية، والخليجية منها بالذات، باستثناء السعودية. عندما كان المعلقون والخبراء الإسرائيليون يتنبؤون بتراجع الرئيس أوباما أمام نتنياهو، كنا نعتقد أنهم يبالغون في نبوءاتهم هذه، فنحن أمام إدارة أمريكية جديدة تتحدث بنغمة مختلفة عن سابقاتها، تعتبر حل قضية الصراع العربي الإسرائيلي جزءا أساسيا من أمنها القومي، وخطوة أساسية لكسب عقول وقلوب العرب والمسلمين وتحسين صورة أمريكا التي شوهتها حروب ومواقف الإدارة الجمهورية السابقة، ولكن جاءت دعوة أوباما إلى القمة الثلاثية لتؤكد لنا أن «دار أبو سفيان» الأمريكية ما زالت على حالها وأن خطاب الرئيس أوباما، الذي ألقاه في القاهرة كعنوان للتغيير، كان مثل خطابات معظم زعماء العالم الثالث، والعرب منهم على وجه الخصوص، مجرد «جعجعة بلا طحن». كنا نتمنى لو أن الرئيس أوباما صبر بضعة أسابيع، أو حتى أيام، قبل أن يركع بهذه الطريقة المؤسفة أمام نتنياهو وليبرمان، خاصة بعد أن أعلن مبعوثه السناتور ميتشل فشل جولته الأخيرة بسبب تمسك نتنياهو بمواقفه بالمضي قدما في توسيع المستوطنات، فهو بذلك ربما يعطينا بعض الأمل ويخلق حالة من الجدل في أوساط الإسرائيليين ويعزز معسكر السلام الإسرائيلي، أو ما تبقى منه، ويزيد من قلقه من احتمالات المواجهة بين واشنطن وحليفها الإسرائيلي المتمرد، الناكر للجميل، ولكنه خيّب آمالنا، نحن الذين اعتقدنا أنه الأكثر تفهما لمعاناتنا والأكثر انتصارا لحقوق الضعفاء الذين يعانون من الدعم الأمريكي للمجازر الإسرائيلية في الأراضي المحتلة. فاللافت أن الرئيس الأمريكي «المختلف» ضغط على الفلسطينيين، الطرف المؤيد لسياسات بلاده، والمنفذ بالكامل لكل ما هو مطلوب منه من خطوات أمنية وسياسية بمقتضى خريطة الطريق، أي حماية الإسرائيليين ومستوطناتهم من أي هجمات لرجال المقاومة، بدلا من أن يضغط على الإسرائيليين الذين أفشلوا جهود السلام الأمريكية ومبعوثها إلى المنطقة. ولا نبالغ إذا قلنا إن أوباما بدعوته هذه إلى حضور القمة الثلاثية أحرج الرئيس عباس، المحرج أساسا، لأن الأخير استند في رفضه للقاء نتنياهو إلى الموقف الأمريكي، اعتقادا منه أنه موقف مبدئي استراتيجي يمكن الرهان عليه، ليكتشف كم كان مخطئا في اعتقاده هذا. نعترف بأننا لم نفاجأ بقبول عباس دعوة أوباما، ولكننا فوجئنا بعملية الاستخفاف بعقولنا التي مارسها الدكتور صائب عريقات، مستشاره الأبرز، عندما حاول تبرير هذا التراجع من قبل رئيسه بالقول إن اللقاء مع نتنياهو لا يعني الانخراط في المفاوضات، لأن شروط الطرف الفلسطيني ما زالت على حالها، أي الإصرار على تجميد الاستيطان بالكامل. كان من الأفضل للدكتور عريقات أن يقول إن اللقاء الثلاثي هو لبحث مسألة الاستيطان وطرح وجهة النظر الفلسطينية بشأنها بوضوح، وإلا لماذا يلتقي السيد عباس بنتنياهو، وعلى أي أساس: للحديث عن الطقس، أم عن الكنافة النابلسية، أم عن الفرق بين الفلافل الفلسطينية ونظيرتها الإسرائيلية؟ ثم إذا كانا لن يلتقيا من أجل التفاوض، فلماذا يلتقيان إذن، كصديقين كانا في فصل دراسي أم كعضوين سابقين في فريق لكرة القدم؟ المصيبة أنه بعد كل الحديث عن إعادة ترتيب البيت الفتحاوي وانتخاب لجنة مركزية جديدة وملء الشواغر في اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير الفلسطينية من خلال عقد «مظاهرة مزورة» لمجلس وطني فلسطيني، ما زال الوضع الفلسطيني على حاله، ويستمر السيد عباس ومجموعة صغيرة حوله، مكونة من ثلاثة أشخاص، في اتخاذ القرارات دون الرجوع لا إلى اللجنة المركزية لحركة «فتح» ولا إلى اللجنة التنفيذية للمنظمة، رغم تحفظاتنا الجوهرية على طريقة انتخاب الاثنتين. الرئيس عباس، بحضوره اللقاء الثلاثي في نيويورك اليوم، سيقوم بدور «المحلل» للقاءات عربية أخرى تفتح صفحة جديدة من التطبيع مع رئيس الوزراء الإسرائيلي وحكومته، ولن نستغرب إذا ما تقاطر زعماء ومسؤولون عرب على جناح نتنياهو لمصافحته والاجتماع به فور حدوث اللقاء الثلاثي المذكور، فطالما أن صاحب الشأن يلتقي نتنياهو، فلماذا لا يلتقيه الآخرون، فهم ليسوا «عباسيين» أكثر من «عباس» نفسه. هنيئا لنتنياهو على هذا النجاح الكبير الذي حققه بإرغام الرئيسين أوباما وعباس على الرضوخ لشروطه، وبعض العرب للتطبيع معه، دون أن يتنازل قيد أنملة عن مواقفه.. نقولها بحسرة وإحباط وامتعاض وقرف، ونكتفي بهذا القدر.