في اليومين الماضيين، تلقى «عرب الاعتدال» صفعتين قويتين من حلفائهما الغربيين، وأمريكا على وجه الخصوص: الأولى تتمثل في تراجع الرئيس الأمريكي عن مطالبه السابقة بوقف الاستيطان كشرط لاستئناف المفاوضات، والثانية في إسقاط السيد فاروق حسني، وزير الثقافة المصري، في معركة انتخابات رئاسة منظمة اليونسكو. الحكومات العاقلة، التي تحترم شعوبها، تسارع إلى دراسة الأسباب التي أدت إلى هاتين الانتكاستين، والعقوق الغربي الذي يكمن خلفهما، واستخلاص الدروس والعبر، وبلورة استراتيجية جديدة تستند إلى تصحيح أخطاء وقناعات المرحلة الماضية، وتبني أساليب عمل جديدة، لا تقوم على أرضية الرغبة في الانتقام وإنما على كيفية خدمة المصالح الوطنية والعربية العليا، بطريقة ذكية وفاعلة في الوقت نفسه. التجارب السابقة مع النظام العربي، بمعسكريه «المعتدل» و«الممانع» وفق التسميات المستخدمة حاليا (نعتقد أن الفوارق تذوب لمصلحة المعسكر الأول)، ليست مشجعة على الإطلاق، وتثبت أن فرص تغيير الاستراتيجيات محدودة، إن لم تكن معدومة كلياً. ليست لدينا أي ثقة في أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس -الذي أجبره الرئيس الأمريكي باراك أوباما على مصافحة كل من بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، وافيغدور ليبرمان، وزير خارجيته، ودعاه إلى جولات جديدة من المفاوضات، دون أي ذكر لتجميد الاستيطان- سيعود إلى رام الله ويبدأ في التخطيط لانتفاضة جديدة، على غرار ما فعله سلفه الراحل ياسر عرفات بعد عودته من مفاوضات كامب ديفيد، مدركاً أن السلام الذي تريده أمريكا يعني التنازل عن القدس وحق العودة للاجئين الفلسطينيين. ولا نتوقع من الرئيس حسني مبارك أن يغير مواقفه وعلاقاته الحميمة مع نتنياهو، بعد أن وعده شخصياً بدعم السيد فاروق حسني في انتخابات اليونسكو ووقف الحملات اليهودية المسعورة ضده، لنكتشف بعد ذلك أن مسؤولين كباراً في الحكومة الإسرائيلية لم يتوقفوا مطلقاً عن التحريض ضد انتخاب المرشح المصري والمطالبة بإسقاطه بكل الطرق والوسائل، وبشكل مهين، وإلصاق تهمة معاداة السامية به. فالرئيسان الفلسطيني والمصري أحرص على مقعديهما الرئاسيين من الإقدام على أي خطوة يمكن أن تغضب سيد البيت الأبيض وحلفاءه الأوربيين، فالأول سيرسل وفده المفاوض إلى واشنطن للقاء نظيره الأمريكي، تلبية للدعوة الأمريكية، وكأنه لم يعلم بتراجع أوباما وإدارته، والرئيس الثاني، أي مبارك، سيواصل استقبال نتنياهو وباراك، مثلما سيعزز علاقته الحميمة مع الثلاثي الأوربي الذي طعنه في الظهر وصوّت لصالح المرشحة البلغارية، أي كل من ساركوزي وبرلسكوني وثاباتيرو الذين صوتوا في المعركة الأخيرة والحاسمة ضد المرشح المصري ولمصلحة المرشحة البلغارية. مبادئ الكرامة الوطنية تتراجع إلى مراتب متدنية جدا عندما يتعلق الأمر بالقادة الإسرائيليين والغربيين لدى الرجلين، وإلا كيف نفسر لقاء الرئيس عباس ومصافحته لنتنياهو وليبرمان، ناهيك عن باراك، ورفضه المطلق لقاء أو مصافحة السيد خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية «حماس»، وهو الذي زار العاصمة السورية دمشق مرتين، والتقى في الأولى جميع الأمناء العامين لحركات المقاومة باستثناء السيد مشعل. نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، ونسأل بكل براءة عن أسباب عدم استقبال الرئيس حسني مبارك لنظيره السوري أو مصافحته أو زيارته، أي مبارك، لدمشق، وهو الذي استقبل نتنياهو مرتين في غضون أربعة أشهر، الأولى في شرم الشيخ والثانية قبل عشرة أيام في القاهرة، ودعاه إلى إفطار رمضاني، وكأن رئيس الوزراء الإسرائيلي من المبشرين بالجنة. نتمنى أن ينتفض الرئيس مبارك انتصارا لكرامته وكرامة بلاده التي أهينت بطريقة مزرية في معركة اليونسكو، خاصة أن الرجل ألقى بكل ثقله خلف السيد حسني وتصرّف وكأنه مدير حملته الانتخابية، من خلال جعل مسألة ترشيحه على قمة جدول مباحثاته مع نتنياهو، في زيارتيه الأولى والثانية، ومع الرئيس الفرنسي، أثناء زيارته الأخيرة لباريس، حيث قالت صحف فرنسية إن الغرض الأساسي منها هو السعي إلى تأييد فرنسا للمرشح المصري. لا نريد من الرئيس مبارك أن يحرك الجيوش باتجاه إسرائيل، ولا أن يقاطع الولاياتالمتحدةالأمريكية، أو يدير ظهره للدول الأوربية التي خذلته ومرشحه وفضلت عليه مواطنة أوربية أعلنت صراحة حنينها إلى الشيوعية وخرجت بلدها من حلف وارسو قبل سنوات معدودة فقط. نريد من الرئيس مبارك أن يطلب من حليفه الرئيس عباس عدم العودة إلى مائدة المفاوضات مع إسرائيل دون وقف كامل للاستيطان وتحديد واضح لمرجعية المفاوضات، وأن يفك الحصار المفروض على أبناء قطاع غزة، ويقود مبادرة لمصالحة عربية تعيد ترتيب البيت العربي، والاعتبار إلى مبادرة السلام العربية. وإذا كان هذا طلبا مستحيلا، لكراهية الرئيس مبارك لأي نوع من المواجهات أو الصدامات -إلا في حالة المعارضة وحركة الإخوان بالذات وجوعى قطاع غزة، والأشقاء في حلايب السودانية- فإننا نقترح عليه أن يأمر قوات أمنه المرابطة في سيناء بعدم إطلاق النار بهدف القتل على المهاجرين الأفارقة المتسللين إلى إسرائيل، وأن يتوقف عن لعب دور الحارس لحدودها، ويترك أمرهم للإسرائيليين على الجانب الآخر. إدارة أوباما، التي خذلت العرب وتراجعت بشكل مخجل أمام نتنياهو عن تجميد الاستيطان، لا يمكن أن تحتضن مفاوضات مثمرة تتناول قضايا الوضع النهائي مثل القدس واللاجئين والحدود والدولة الفلسطينية المستقلة؛ فأوباما أدرك جيدا، وبكل بساطة، أن الصدام مع نتنياهو مكلف جدا له ولإدارته، لما يمكن أن يترتب عنه من تبعات داخلية، أما إغضاب العرب وحكوماتهم فلا ضرر منه، بل ربما يعطي نتائج ايجابية، لسبب بسيط هو أن هؤلاء، أي القادة العرب، قرروا أن يكونوا أدوات تخدم المشاريع الأمريكية في منطقتهم دون أي نقاش. نتنياهو لم يكسر إرادة أوباما وإدارته فقط، وإنما أثبت أنه الأقوى في أمريكا من الرئيس الأمريكي المنتخب نفسه، وستكون الخطوة الثانية له كسر الأممالمتحدة وإجبارها على سحب تقريرها، الذي أدان جرائم الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة وطالب بعرض هذه الجرائم والمتورطين فيها على المحكمة الدولية في لاهاي. مصيبتنا كعرب تنحصر في رئيس قزّم دور مصر، وشل بالتالي المنطقة العربية، ورئيس فلسطيني باتت علاقته بفلسطين وقضيتها وشهدائها وأسراها وشعبها علاقة مبهمة وأكثر من شكلية. ولهذا ستتواصل الصفعات لهذه الأمة الواحدة تلو الأخرى. وهذا لا يعني أننا نسينا مصائبنا الأخرى المتمثلة في زعماء عرب آخرين.