تعودت كل يوم خميس، على مدى عشر سنوات، أن نعقد، أنا وأصدقائي، ندوة أدبية يشارك فيها هواة الثقافة من مختلف الأعمار والتوجهات. ذهبت هذا الأسبوع إلى الندوة، فوجدت نحو ثلاثين شخصا فطرحت عليهم السؤال التالي: ما كان شعوركم عندما سمعتم بأن فاروق حسني قد خسر في انتخابات اليونسكو؟ أذهلتني النتيجة: شخص واحد قال إن فاروق حسني وقع عليه حيف لأنه يستحق المنصب عن جدارة لمواهبه وإمكانياته.. وقال شخصان إنهما أحسا بالأسف من أجل مصر التي خسرت منصبا دوليا رفيعا.. أما الباقون فقد أكدوا جميعا أنهم تقبلوا خسارة فاروق حسني بارتياح كبير.. وفي نفس اليوم، طالعت تعليقات المصريين على مواقع الأنترنيت، فوجدت أن معظمهم أبدوا ارتياحهم لخسارة فاروق حسني المنصب والانتخابات.. بدا لي ذلك غريبا، فالمصريون لديهم انتماء قوى إلى بلادهم ويتباهون بأي نجاح مصري على المستوى العالمي. مازلت أتذكر الفرحة الغامرة التي عمت مصر، من أقصاها إلى أقصاها، عندما أعلن رسميا عن فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل في الأدب، أما الدكتور أحمد زويل، الحاصل على جائزة نوبل في العلوم، فقد صحبته ورأيت بنفسي مدى الحفاوة التي كان يحظى بها عند المصريين في كل مكان يذهب إليه.. لماذا يفخر المصريون، إذن، بأحمد زويل ونجيب محفوظ، وفي نفس الوقت يحس كثيرون منهم بالارتياح عندما يخسر فاروق حسني انتخابات اليونسكو؟ هل تعرض فاروق حسني إلى مؤامرة صهيونية من أجل إسقاطه؟ وهل كانت هناك خيانة من طرف ما، أدت إلى خسارته في الجولة الأخيرة؟ سألخص الإجابة في النقاط التالية: لم يكن فاروق حسني قط وزيرا منتخبا من المصريين.. بل إنه، لما تولى الوزارة، كان مجهولا تماما فنيا -فاروق حسني رسام تشكيلي- وسياسيا. وقد ظل في منصبه 22 عاما، ليس بفضل تقدير المصريين لإنجازاته وإنما بسبب دعم الرئيس مبارك له.. وإذا عرفنا أن الرئيس مبارك نفسه يحكم مصر منذ ثلاثين عاما بدون أن يخوض انتخابات حقيقية واحدة.. فالنتيجة أن يشعر المصريون بأن فاروق حسني جزء من النظام المفروض عليهم، الذي تسبب، بفساده وفشله واستبداده، في البؤس الذي يعيش فيه ملايين المصريين، أما في حالة أحمد زويل ونجيب محفوظ ومجدي يعقوب، وأمثالهم من النوابغ على المستوى الدولي، فالمصريون يحبونهم لأنهم مستقلون اجتهدوا حتى حققوا إنجازاتهم بعيدا عن النظام وأحيانا رغم أنفه. جاء ترشيح فاروق حسني لمنصب مدير اليونسكو مصحوبا بدعاية إعلامية جبارة وكأنه سيخوض معركة حاسمة يتحدد فيها مصير الوطن.. وذلك لسببين: أولا، أن الرئيس مبارك هو الذي رشحه للمنصب. وكانت الرغبة السامية للرئيس سببا في حشد كتاب الحكومة ومسؤوليها لتأييد فاروق حسني والتهليل له.. وهؤلاء تتلخص مهمتهم في التطبيل والتزمير لكل ما يريده الرئيس أو يقوله أو حتى ما يفكر فيه؛ السبب الثاني، أن فاروق حسني قد نجح في إدخال كثير من المثقفين المصريين إلى دائرة النظام، بمعنى أنه ربط هؤلاء المثقفين بمصالح مباشرة مع وزارة الثقافة.. بدءا من المثقفين الشبان الذين يتعاقد معهم الوزير بعقود مؤقتة إلى منحهم إجازات استثنائية وإنشائه مشاريع شكلية ولجان وهمية، يتم الإغداق على أعضائها لضمان ولائهم.. وحتى المثقفون المعروفون يمنحهم الوزير مبالغ طائلة بوصفهم مستشارين.. وقد نتج عن ذلك أن تشكلت لدى الوزير فاروق حسني ميليشيا مسلحة في المشهد الثقافي المصري.. وأفرادها مستعدون دائما للدفاع عنه، سواء كان مخطئا أو مصيبا. وهؤلاء، بالطبع، تفانوا في إظهار حماستهم لترشيح الوزير بغض النظر عن مدى صلاحيته للمنصب. يعد فاروق حسني تجسيدا واقعيا للمسؤول في نظام استبدادي، فكل ما يهمه هو إرضاء الرئيس حتى يبقى في الوزارة، وهو مستعد لتحقيق ذلك بأي طريقة وبأي ثمن، ولديه موهبة مدهشة في الدفاع عن الفكرة وعكسها بنفس الحماس.. والأمثلة هنا بلا حصر، فقد دافع هو عن حرية التعبير في أزمة رواية «وليمة لأعشاب البحر» لحيدر حيدر؛ ولم يلبث بعد ذلك أن صادر بنفسه ثلاث روايات طبعتها وزارة الثقافة وأعفي المسؤول عن نشرها من عمله، ثم نظم حملة مصادرة لنسخ من رواية «شيفرة دافينشي» ومنع تصوير فيلم عن الكتاب ما لم يطبع في مصر.. وعندما قابل الوزير نوابا من الإخوان المسلمين، قال لهم تصريحه الشهير الذي تعهد فيه بحرق الكتب الإسرائيلية.. ثم عاد بعد ذلك واعتذر عن التصريح في مقال نشره في صحيفة «لوموند».. بل إنه أراد أن يثبت تسامحه مع إسرائيل، فدعا الموسيقار الإسرائيلي دانيال بارنبويم إلى الأوبرا المصرية، مخالفا بذلك قواعد منع التطبيع مع إسرائيل التي كان يفخر في الماضي بأنه يطبقها بصرامة.. وهكذا، لم يعرف أحد أبدا ما رأي فاروق حسني أو مبدؤه الحقيقي؟.. لأنه لا يفعل ما يؤمن به وإنما ما يساعده على تحقيق أهدافه. يقدم السيد فاروق حسني، الآن، نفسه إلى الرأي العام المصري باعتباره ضحية لمؤامرة صهيونية غربية، استهدفت إقصاء العرب والمسلمين من رئاسة اليونسكو.. وهذا غير صحيح.. فقد سبق لرجل إفريقي أسود مسلم، من السنغال، هو أحمد مختار أمبو، أن فاز في انتخابات اليونسكو لفترتين متتاليتين وظل مديرا لليونسكو لمدة 13 عاما متصلة (19741987)، كما أن الحديث عن عداء إسرائيل والدول الغربية لفاروق حسني غير صحيح أيضا.. فبعد اعتذار فاروق حسني في صحيفة «لوموند»، أعلنت الخارجية الإسرائيلية رسميا قبول اعتذاره؛ كما أكد بنيامين نتنياهو للرئيس مبارك أن إسرائيل لن تقف ضد ترشيح فاروق حسني، بل أعلنت فرنسا رسميا أنها ستصوت لصالحه في كل الجولات؛ أما الموقف الأمريكي المعارض فقد كان مباشرا وواضحا.. إذ أخبرت الإدارة الأمريكية الحكومة المصرية منذ البداية بأنها على استعداد لتأييد أي مرشح مصري غير فاروق حسني.. أين المؤامرة، إذن؟ الصحفيون التابعون لفاروق حسني يعتبرون الترتيبات التي حدثت في كواليس اليونسكو لصالح المرشحة البلغارية مؤامرة، وهم ينسون أن فاروق حسني قد عقد نفس الترتيبات مع الذين صوتوا لصالحه وأن هذه هي طبيعة الانتخابات الحرة في أي مكان. لقد فازت المرشحة البلغارية إيرينا بوكوفا برئاسة اليونسكو لسبب بسيط هو أنها تصلح للمنصب أكثر من فاروق حسني.. فهي أصغر سنا منه ومازال لديها الكثير لتقدمه، كما أنها على قدر عال من التأهيل العلمي، فقد تخرجت من جامعتي ميريلاند وهارفارد في أمريكا، ولديها خبرة في المناصب الدولية لا تتوفر للسيد حسني، والأهم من كل ذلك أن لها آراء محددة في كل شيء لا تحيد عنها ولا تنقلب عليها، كما أنها مدافعة عن الديمقراطية والحرية، وليست وزيرة في نظام استبدادي احترف تزوير الانتخابات وقمع المعارضين. أخيرا.. إن من خسر الانتخابات في اليونسكو هما فاروق حسني والنظام المصري، أما الشعب المصري فلم يخسر شيئا لأنه لم يختر فاروق حسني ولم ينتخب الرئيس مبارك الذي رشحه وسانده.. لقد كان فاروق حسني مرشح النظام ولم يكن مرشح مصر.. وفي مصر المئات من أصحاب الكفاءات الذين يصلحون لمنصب مدير اليونسكو أكثر من فاروق حسني، لكن الرئيس مبارك لم يرشحهم لأنه أراد منح هذا المنصب بالذات للسيد فاروق حسني؛ ولأن إرادة الرئيس فوق كل اعتبار فقد تم إهدار ملايين الدولارات من أموال المصريين الفقراء من أجل الدعاية لفاروق حسني في معركة خاسرة مسبقا.. لكننا رأينا أيضا كيف أن كلمة الرئيس مبارك مسموعة داخل مصر فقط وليس خارجها.. لأنه في المؤسسات الديمقراطية، مثل اليونسكو، غالبا ما يفوز بالمناصب الذين يصلحون لها. إذن، فالديمقراطية هي الحل الوحيد.