داريا، كاترينا، هيغو،... كما تطلق على العواصف والأعاصير أسماء شاعرية بنكهة إيكزوتيكية، حتى وإن كانت مخلفاتها كارثية على الطبيعة والبشر، تكنى بعض العمليات والملفات ذات الحساسية السياسية والاستراتيجية بشيفرات من نوع «الماس المرصع»، «عين الليل»، لتحجب في طياتها صفقات سلاح أو ترتيب عمليات اغتيال خصوم... وقد عرفت فرنسا في تاريخها الحديث العديد من القضايا بأسماء غرائبية، انتهت عموما بتسريبات على مانشيتات الصحافة ومحاكمات نالت من سمعة مسؤولين سياسيين كانوا على رأس هرم السلطة. وآخر قضية شرعت، منذ الإثنين 21 سبتمبر، محكمة الجنايات بباريس في النظر في تداعياتها هي قضية كليرستريم Clearstream، «الغدير الصافي»، والتي يعتبرها بعض المراقبين والمحللين السياسيين إحدى المحاكمات الاستثنائية في تاريخ الجمهورية الفرنسية، بحكم عناصر التشويق البوليسي التي ترفدها الأطراف المعنية فيها، وبخاصة دومينيك دو فيلبان، الوزير الأول السابق خلال رئاسة جاك شيراك، ونيكولا ساركوزي، الذي كان يشغل آنذاك منصب وزير الصناعة. لكن على خلفية هذا المشهد العدائي بين شخصين كانا ولا يزالان يكنان لبعضيهما الكثير من البغضاء، ثمة خيوط عنكبوتية تقف من ورائها الشركات الكبرى للصناعة الملاحية والحربية، وبخاصة شركة EADS، التي تتحكم فيها مجموعة لاغاردير. اندلعت قضية كليرستريم عام 2004، وهو اسم غرفة تعويضات مالية مقرها في الليكسمبورغ. وتعتبر هذه الشركة، التي أنشئت في يوليوز من عام 2000، ثاني شركة عالمية في ميدان الصناعة الملاحية وفي ميادين الفضاء والدفاع. EADS هي، من جهة أخرى، إحدى كبريات شركات صناعة الطائرات من نوع آيرباص، طائرات الهيلكوبتر، أنظمة إرسال الصواريخ والأقمار الاصطناعية،... إلخ. منذ البداية، أي منذ أن انفجرت الفضيحة، اعتبر نيكولا ساركوزي أن الزج باسمه في الملف ما هو إلا محاولة لزعزعته وهو بصدد خوض معركة الانتخابات الرئاسية. اندلعت فضيحة كليرستريم في عز تحقيقات القاضي رونو فان رينمبيك في صفقة البواخر التي بيعت لطايوان والتي تلاعبت فيها أكثر من شخصية. تلقى القاضي من مجهول رسائل وأقراصا مدمجة تدعي وجود لوبي عالمي يتعاطى للغش والتزوير، مع تواجد 895 حسابا بنكيا سريا في أسماء بعض الشخصيات، من بينها نيكولا ساركوزي، الذي كان يشغل آنذاك حقيبة وزير الصناعة. الأسماء الأخرى التي أشارت إليها الرسالة هي دومينيك ستروس كان ولوران فابيوس وجان-بيار شوفينمان. غير أن القاضي لم يجد عناء في حدس أن الأسماء أضيفت إلى الوثائق لاحقا. وقد كلف قاضيان بالبحث في مصدر إنجاز هذه الوثائق المزيفة. لكن ما لبث بعض القضاة أن ركزوا انتباههم واهتمامهم على عماد لحود، الذي كان يعمل خبيرا لدى EADS، بتوصية من الجنرال فيليب روندو، الخبير في الاستخبارات الفرنسية، وذلك مكافأة له على عمله لصالح الاستعلامات الفرنسية في الكشف عن القنوات التمويلية لمنظمة القاعدة. وفي إطار هذه المهمة، تعرف على حسابات كليرستريم، كما التقى بالصحافي دونيه روبير الذي كان أول من كشف عن القضية. في سنة 2006، وجدت الشركة نفسها في قلب الإعصار: صرح جان-لوي جيرغوران، مدير فرع EADS ، المكلف بالاستراتيجية بأنه صاحب أولى الرسائل المجهولة التي تلقاها القاضي رونو فان رينمبيك عام 2004. وضمن اعترافاته، أن عماد لحود وأخاه مروان لحود، المدير الجديد لEADS، فرع الدفاع والأمن، هما مصدر تسريب الأخبار والرسائل. في شهر يوليوز من 2007، وجه كل من الجنرال فيليب روندو وعماد لحود التهمة إلى دومينيك دو فيلبان بكونه الرأس المدبر لإدراج اسم نيكولا ساركوزي ضمن القائمة. بوصول هذا الأخير إلى الرئاسة، أصبح دومينيك دو فيلبان المتهم الرئيسي في القضية، التي اتخذت أبعادا شخصية بين دو فيلبان وساركوزي. على مدار أربع سنوات من التحقيق والمفاجآت، اكتشف الفرنسيون أوجه جديدة من السلطة، الدسائس، الحقد الصريح بين أقطاب السلطة. وإلى أن تقول العدالة كلمتها الفصل في الواحد والعشرين من أكتوبر، ستعيش فرنسا على إيقاع إعصار ملوث اسمه «الغدير الصافي».