ما لا تعرفه الأخت زينب، التي تزعمت حركة المفطرين في رمضان بالمحمدية، أن الفصل 222 الذي يجرم المجاهرة بإفطار رمضان، والذي تنادي بحذفه ضمانا للحريات الفردية كما هي مطبقة في فرنسا، البلد الذي تحمل زينب جنسيته، ليس مصدره التشريع المغربي الحديث وإنما مصدره الحماية الفرنسية التي وضعته سنة 1913 لكي يتم تعديله في 1933 خلال حكم الماريشال ليوطي، الذي ربما تكون زينب وأصدقاؤها في الحركة درسوا فوق طاولات «الليسي» الفرنسي الذي يحمل اسمه بالدارالبيضاء. هذا الفصل لم يكن في الأصل موجها إلى المغاربة لأنهم كانوا يصومون رمضان، وإنما كان موجها إلى المعمرين الفرنسيين حتى لا يستفزوا مشاعر السكان المحليين. وهكذا، كان المعمرون الفرنسيون يلتزمون طيلة شهر رمضان بالأكل في بيوتهم والانقطاع عن التدخين في الأماكن العامة، تجنبا لإثارة غضب الصائمين. عندما حصل المغرب على استقلاله، ورث ترسانة من القوانين التي وضعها المستعمر الفرنسي، بعضها منقول حرفيا من القانون المدني الفرنسي، وبعضها الآخر معدل حسب ما تقتضيه الشريعة الإسلامية. هذا لا يعني أن كل القوانين التي ورثناها عن فترة الاستعمار لازالت صالحة إلى اليوم، فهناك قوانين مضحكة لازالت الإدارة المغربية تعمل بها، مثل ضرورة الحصول على وثيقة إثبات الجنسية المغربية بالنسبة إلى المغاربة. فحتى لو كان المغربي حاصلا على البطاقة الوطنية وجواز السفر المغربي، فإنه مضطر، مثلا، إلى الحصول على ترخيص إصدار جريدة باستصدار وثيقة تثبت جنسيته المغربية، وكأن «الجلبة» التي على ذراعيه والتي تشبه عضة كلب لا تكفي للبرهنة على أنه مغربي «ضوريجين». وبالإضافة إلى هذا القانون، هناك قوانين أخرى بالية موروثة من عهد الاستعمار لم يفكر أحد في الأمانة العامة للحكومة برميها في سلة المهملات. لكن بالنسبة إلى الفصل 222، الموروث عن الماريشال ليوطي، فأهميته تكمن في أنه يحمي المفطرين في رمضان عكس ما تتصوره زينب وأصدقاؤها. ولنتصور أن هؤلاء الشبان الذين جاؤوا لكي يعلنوا أمام الملأ أنهم سيذهبون إلى غابة بنواحي المحمدية لكي يأكلوا «الفقاص» ويشربوا الماء بالسكر، توجهوا فعلا إلى الغابة وأفطروا علانية دون أن توقفهم عناصر الأمن، فمن يا ترى سيضمن أنهم لن يتعرضوا للرجم في تلك الغابة الموحشة من طرف أشخاص سيعتبرون ما يحدث بالقرب منهم استفزازا مباشرا لمشاعرهم ومنكرا يجب تغييره. لذلك، فالفصل 222 يوجد في القانون أساسا للحرص على السلامة الجسدية للمفطرين في رمضان. وبما أن الدولة ليست لديها الإمكانية لضمان الأمن لجميع المفطرين في رمضان، فإنها لجأت إلى الاحتفاظ بهذا الفصل لكي تمنع المجاهرة بالإفطار فقط، أما الإفطار في حد ذاته فليس ممنوعا. واليوم، تشتكي زينب وأصدقاؤها من كونهم أصبحوا يتلقون رسائل ومكالمات تهددهم بالقتل. وطبعا، لا يسعنا سوى أن ندين أصحاب هذه الرسائل والمكالمات الجبانة، لكن هذا لا يمنعنا أيضا من طرح سؤال بسيط على هؤلاء الشباب الذين شربوا حليب السباع وقرروا إعلان إفطارهم على الملأ بلا خوف، ما الذي كنتم تنتظرون أن يصلكم.. باقات الورود ورسائل التهاني ربما؟ مشكلة هؤلاء الشباب «المفرنسين» أنهم لا يعرفون بلدهم جيدا، فأغلبهم يعيش في عالم افتراضي داخل «اليوتوب» و«الفايسبوك» و«تويتر» وغيرها من المواقع التي، من فرط استيطانها، يصبح هؤلاء الشباب منفصلين كليا عن الواقع اليومي للمغاربة؛ ولذلك يتصرفون أحيانا بخفة ونزق ويرتكبون حماقات غير محسوبة، وفي الأخير يشرعون في الشكوى بسبب التهديدات التي تصلهم عبر الهاتف والبريد الإلكتروني. إن من يملك الجرأة والشجاعة على تحدي 99.99 في المائة من المغاربة، بإعلان إفطاره نهارا جهارا، عليه أن يعرف أن جرأته هذه لديها ثمن، وعليه أن يكون مستعدا لدفع هذا الثمن مهما كان باهظا. طبعا، الدولة مسؤولة عن حماية كل الأفراد، بمن فيهم أولئك الذين يعرضون حياتهم للخطر. لكن على هؤلاء الذين يغامرون بتحدي مشاعر المغاربة الدينية في شهر يعتبر من أقدس الشهور وأكثرها احتراما عند المسلمين، أن يتحملوا أيضا نصيبهم من المسؤولية في ما يقومون به. فالأخت زينب التي لا تتعب من توزيع صورها على الصحف كاشفة عن وجهها بدون خوف، معطية الحوارات هنا وهناك، بإصرار مبالغ فيه على استفزاز مشاعر المغاربة في أواخر هذا الشهر المبارك، أبانت عن جرأة كبيرة في التعبير والدفاع عن موقفها، بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معه؛ ولذلك فتحميلها للدولة المسؤولية في حالة تعرض أي عضو من حركتها لمكروه، لا قدر الله، فيه محاولة للعب دور الضحية في هذه الحكاية السخيفة التي كان يجب أن تبدأ وتنتهي أمام محطة القطار بالمحمدية. وما لا تعرفه زينب وأصدقاؤها أن الدولة عندما استمرت في الاحتفاظ بالفصل 222 فمن أجل حمايتها، وحماية أشباهها، من أي اعتداء قد تتعرض له إن هي جاهرت بإفطارها. إنها عندما تطالب بحذف الفصل 222 فإنها في الواقع تطالب بتخلي الدولة عن حمايتها. لماذا نقول إن هذه الحكاية سخيفة وكان يجب أن تنتهي بتفريق «أبطالها»؟ ببساطة، لأن هؤلاء «الأبطال» يعيشون في مغرب آخر لا يوجد سوى في المواقع الافتراضية على الأنترنيت بعيد كل البعد عن المعاناة الحقيقة واليومية للأغلبية الساحقة من المغاربة. وهكذا، ففي الوقت الذي يريد فيه ستة شبان ليّ ذراع الدولة للحصول على الحق في أكل «الفقاص» أمام الملأ في رمضان، تلوي الدولة أذرع مئات الشابات والشبان من حملة الشواهد العليا الذين قرروا الإفطار يوميا أمام البرلمان احتجاجا على البطالة التي يعانون منها. «شي باغي ياكل الفقاص قدام محطة التران وشي مفقوص قدام البرلمان». لقد أعطت حركة «فطارين رمضان» صورة مغلوطة عن انشغالات الشباب المغربي، فقد كانت حركتهم ستكون ذات جدوى لو أنها ناضلت ضد المشاكل الحقيقية التي يعاني منها المغاربة، وخصوصا الشباب في سنهم: المخدرات، البطالة، العنف، الانفصام الثقافي، الهجرة، إلى غيرها من الكوارث التي تتربص بالشباب المغربي. لكن يبدو أن «وليدات فرانسا» تلاميذ «Gilles kepel» الذي يتخرجون على يديه من مدرجات العلوم السياسية بباريس ويعودون إلى المغرب للاشتغال في الصحافة الفرنكوفونية وترديد أفكاره مثل ببغاوات، لا يعرفون أين وصلت «الدقة» في المغرب. فهم لم يعيشوا «الزلط» ولم تضربهم الحيطان ولم يتشردوا على أرصفة الوطن. وفي الوقت الذي ينشغلون فيه بتحدي الصائمين بالإفطار أمامهم بأكل «الفقاص»، هناك الآلاف من المواطنين في زنقة «بني مكيلد» في الدارالبيضاء يعيشون على «الخبز البايت» من أحد المحلات المتخصصة في بيعه، لأن ظروفهم المادية لا تسمح لهم باقتناء الخبز الطري. وفي الحي المجاور، هناك الآلاف من المواطنين يشترون «المرقة بالديطاي» في أكياس بلاستيكية لأن حالتهم الاجتماعية مزرية إلى الحد الذي لا يستطيعون معه طهو مرقهم الخاص في البيت. وفي أماكن أخرى كثيرة، لازال المغاربة يشترون لحوم عيد الأضحى بالديطاي في اليوم الموالي للعيد بسبب العوز والفقر والحاجة. مشاكل المغرب الحقيقية هي هذه يا زينب، هي انتشار الفقر والحاجة بسبب الظلم الاجتماعي والشطط في توزيع الثروات؛ هي البطالة التي تقتل أغلى ما يملكه المغرب، شبابه المتعلم؛ هي هذا المد العاتي من الدعارة الذي يهدد الأسر في بناتها؛ هي هذا الهجوم الكاسح للمخدرات من كل نوع على بيوت المغاربة والذي حول فلذات أكبادهم إلى مدمنين في مقتبل العمر؛ هي هذا الرعب الذي أصبح يتربص بالمغاربة في الشوارع حاملا سيفا طويلا يسرق به رواتبهم الشهرية. وإذا كانت هناك من ضرورة لحركة حقيقية على موقع «الفايسبوك» فلتكن حركة شبابية واعية وناضجة للنضال ضد كل هذه الظواهر السلبية التي تهدد شباب المغرب في مستقبله وصحته الجسدية والعقلية وتوازنه الروحي والأخلاقي. أما تبديد الجهد والوقت في الدفاع عن القضايا الخاسرة، مثل الحق في الإفطار العلني خلال رمضان في بلاد يصوم فيها 99.99 في المائة من سكانها، فهذا يكشف عن خواء فكري وثقافي وديني لا حدود له عند هؤلاء الشباب. عندما نرجع إلى الوراء ونتأمل كيف قرر الماريشال ليوطي، الذي جاء لاستعمار المغرب، وضع قانون خاص بالفرنسيين يجبرهم على تجنب الإفطار أمام المغاربة في رمضان احتراما لمشاعرهم، ثم نعود إلى وقتنا الراهن ونرى كيف أصبح مغاربة يطالبون بحقهم في الإفطار العلني أمام إخوانهم المغاربة بدون خجل، نستخلص أن هناك بيننا من أصبح «يناضل» لكي ينجح في ما فشل الاستعمار نفسه في تحقيقه.