هي ذكريات من الزمن الجميل الذي احتضن فيه درب السلطان أبناءه المشاهير، عشاق الكرة ( الأب جيكو، بيتشو، الظلمي، الحداوي، اسحيتة، بتي عمر، الحمراوي...) وهي الذكريات التي أهدى فيها هذا الحي الشعبي الفقير أجمل الأعمال المسرحية والتلفزيونية والسينمائية التي أبدعها في زمن بيضاوي جميل أبناء من تاريخ عصفور، ثريا جبران، عبد العظيم الشناوي، محمد التسولي، عبد القادر مطاع، سعاد صابر، مصطفى الزعري، الحاجة الحمداوية، مصطفى الداسوكين، عبد القادر وعبد الرزاق البدوي، عبد اللطيف هلال، مصطفى التومي، عائد موهوب، أحمد الصعري، الشعيبية العدراوي... هو درب السلطان الحي الذي احتضن طفولة عبد اللطيف السملالي وسعيد السعدي الوزير الأسبق للأسرة والتضامن...، ومنح للتاريخ مناضلين يشهد شارع الفداء الشهير على تضحياتهم. يتذكر أبناء درب السلطان أمسهم الفني الجميل من خلال نماذج كأحمد جبران، عمر الطنطاوي، أحمد زنيبر، السعدي، ابراهيم العلمي، أحمد الغرباوي، الحاجة الحمداوية، سكينة الصفدي... ويتذكرون محمد الحياني، ذلك الفتى الصغير الذي كان يعشق الموسيقى بكل الإحساس الجميل، يستحضرون صورة هذا الفنان الرقيق الذي كان يصر على زيارة درب السلطان للنبش في ذكريات الطفولة، ويتذكرون صورة فنانة كل المغاربة نعيمة سميح، بين أحياء بوشنتوف ودرب الإسبان ودرب الفقراء حيث عاشت مبدعة “ياك أجرحي” و”أمري لله” و”هادا حالي”، وتعلقت الفتاة التي كانت تشتغل حلاقة في هذا الحي البسيط، بهوس الفن، قبل أن تتحول إلى الفنانة المحبوبة من لدن المغاربة. ويتذكرون الابنة التي أهدت المغاربة أجمل لحن اسمه “يا جار وادينا”، يحيون ذكرى مطربة اسمها رجاء بلمليح ابنة درب السلطان التي أوصلت الصوت المغربي إلى كل الأرجاء العربية. عن ذكريات الراحلة رجاء بلمليح، يقول عبد الغفار بنشقرون، وكيل أعمال الراحلة الذي رافقها لعدة سنوات: “رجاء من مواليد درب “الشرفاء” الفقير، كانت رحمها الله شغوفة بهذا الحي، لأنها كانت تقول إنه حي المقاومة ومهد الرياضة والثقافة، فيه اجتمعت العديد من المعطيات التي غابت في غيره من الأحياء، هي ابنة درب السلطان التي رباها والداها على الحس الوطني، هذا الحي كانت له مكانة في قلبها. ومن فرط حبها له، طلبت مني رجاء ومن نادية بوشاري مديرتها الإدارية أن تزور ثانوية فاطمة الزهراء بدرب السلطان التي درست فيها، وهذا ما تحقق، إذ قمنا بزيارة هذه المؤسسة. وعلى الرغم من أننا وجدنا صعوبة مع المسؤولين عن المؤسسة، فقد استطاعت مع ذلك أن تدخل إلى الأقسام التي درست فيها واستحضرت بعضا من الذكريات التي عاشتها في هذه المؤسسة وأخذت صورا تذكارية مع بنات الثانوية، وأعطتنا الانطباع بأنها أحست بقرب وفاتها، فقررت أن تودع الفضاءات المحتضنة لطفولتها. كانت تلك لحظة مؤثرة في علاقة رجاء مع حي درب السلطان”. ويواصل عبد الغفار بنشقرون رحلة النبش في ذكريات رجاء بلمليح، قائلا: “أتذكر حادثة أخرى متعلقة بهذا الحي، إذ قصدت رجاء في أحد الأيام مطعما للأكلات الشعبية البسيطة بالقاهرة، فالتقت بها مغربية هناك، فاستغربت هذه المرأة من رؤية رجاء وهي تأكل في هذا الفضاء البسيط، وقالت: “أنتِ مْعْروفة وتتاكلي هنا”؟! فردت عليها رجاء بلمليح: “هذا أمر طبيعي، لأنني تربيت في درب السلطان المعروف بالأكلات الشعبية”.. في الحقيقة لقد تعلقت رجاء بهذا الحي بشكل قوي”. “في هذا الحي نسجت رجاء علاقات مع ابنة درب السلطان نعيمة سميح، كما كانت لها صديقة اسمها نادية بكار، هذا إلى جانب فنانات أخريات من بينهن ماجدة عبد الوهاب التي كانت تقطن ببوركون. من هذا الحي انطلق المسار الفني لرجاء بلمليح التي شاركت سنة 1978 في برنامج “أضواء المدينة”، قبل أن تدشن المسار من خلال أغنية وطنية لحنها الموسيقار أحمد البيضاوي، تلتها تجربة أغنية “عد يا حبيبي إلى عش الهنا” لعبد الله عصامي، إلى أن جاءت محطة أغنية “يا جار وادينا”، يقول عبد الغفار بنشقرون. وشقّت بلميلح طريقها الفني، بالتعاون مع كبار الملحنين المغاربة ومن بينهم: المفضل العذراوي، أحمد البيضاوي، عبد القادر الراشدي، عبد الله عصامي وحسن القدميري، ومن الشعراء: محمد حاي وعبد الرفيع جواهري وغيرهم. وفي عام 1987 أصدرت بلمليح أول البوم لها بعنوان “يا جار وادينا”، ضم عدداً من الأغنيات منها “مدينة العاشقين” و”الحرية”، و”أطفال الحجارة”. ثم أصدرت ألبوما آخر بعنوان “هكذا الدنيا تسامح”. وفي مطلع التسعينيات انتقلت إلى مصر، حيث كانت لها انطلاقة جديدة أثمرت البوم “صبري عليك طال” الذي تعاملت فيه مع الملحن حميد الشاعري، ثم ألبومي “يا غايب” و”اعتراف”. ومن بين الملحنين المصريين الذين تعاملت معهم جمال سلامة ومحمد ضياء وحلمي بكر وصلاح الشرنوبي. هي رجاء بلمليح، ابنة الأمس التي فارقت الحياة قبل عام، مخلفة ذكريات في وجدان المغاربة وأحاسيس خاصة في دواخل أبناء درب السلطان الذين يدعون لها بالرحمة والمغفرة حبا ووفاء لهذه الفنانة المتميزة.