«تحمل مسؤولية عائلته في سن صغيرة، وأصر على جمع شمل العائلة، كان حنونا وبشوشا، حفظ القرآن في صغره وحرص على تعليمه لأبنائه، وكان أبا وأستاذا وموجها تربويا ودينيا لأبنائه، تزوج 9 مرات وأنجب 26 ابنا وابنة وكان نعم الوالد، ورغم أنه تقلد مناصب مهمة في حياته، فإن انشغالاته الكثيرة لم تسلبه من عائلته. أما النكات التي كانت تروى عنه فلم تكن تضايقه أبداّ. هذه جملة من الشهادات التي أدلى بها الجماني سيدي غيثي، وهو يسترجع شريط الذكريات مع والده، في محاولة لتقديم الوجه الآخر لشخصية سعيد ولد خطري الجماني. - هل يمكن أن تقربنا من شخصية سعيد الجماني وكيف عاش طفولته؟ > ولد سعيد الجماني سنة 1915 بمنطقة «ثلاثاء الخصاص» في نواحي مدينة كلميم وتزنيت من أسرة محافظة، وترعرع في هذه المنطقة قبل أن ينتقل عبر الصحراء، حيث عاش طفولته ما بين «واد نين» وما بين الصحراء عند الحدود الموريتانية، وهو أصلا ينتمي إلى قبيلة الرقيبات، نسبة إلى جدنا سيدي أحدم الرقيبي، وقد توفي والده وهو لا يزال في ريعان الشباب، حيث لم يتجاوز عمره آنذاك 21 سنة، وبسبب ذلك تذوق مرارة الفراق والحرمان، وافتقد الهناء الذي كان ينعم به في حياة والده. - هل يعني هذا أن سعيد الجماني لم يكن طفلا عاديا؟ > إذا كان القصد الدلال والانشغال بأمور صغيرة كما هو شأن أطفال اليوم، فانه لم يكن كذلك، اذ بمجرد ما توفي والده حتى طلب منه أفراد القبيلة أن يتقلد مهام شيخ القبيلة، وتدبير شؤونها بالإضافة إلى رعاية الأسرة. رجل قبل الأوان < وكيف كان موقف والدك آنذاك؟ رفض والدي في بداية الأمر تحمل العبء الذي ألقي على كتفيه بسبب صغر سنه وكثرة عدد أفراد العائلة، لكنه استجاب في الأخير بعد إلحاح شيوخ القبيلة، ووافق عل تقلد المهام التي تتطلبها هذه المسؤولية. < وهل تغيرت شخصيته بعد تحمل هذه المسؤولية؟ كان أبي طموحا وجادا، كما كان حريصا على إظهار قدراته أمام شيوخ القبيلة الذين اختاروه لتقلد مهام أكبر من سنه، وكنتيجة لذلك تغيرت شخصيته من شاب له احتياجات معينة إلى رجل يافع وشيخ وقائد كبير، وبسبب المهام التي ألقيت على عاتقه تقوت شخصيته وأصبحت متميزة أمام الجميع. - كيف أثر فقدان والده على حياته؟ لقد تأثر كثيرا بعد وفاة والده لأنه فقد الحنان والظل الذي كان يحتمي به، ولأنه لم يكن يهتم لشيء في حياة والده، وبعد وفاته وجد أمامه مسؤوليات كثيرة لم يسبق له تحملها من قبل. > كيف كان تعليمه؟ لأن حفظ القرآن كان ضروريا آنذاك، خاصة عند القبائل الصحراوية فقد حفظ كتاب الله ودرس الحديث، لكنه لم يلج المدارس أبدا. - وهل كان انسانا متدينا؟ > أجل فقد كان حريصا على أداء كل الفرائض الدينية، لكن باعتدال تام. - وكيف كانت علاقته بالمحيطين به؟ > كانت علاقته طيبة بالجميع، وكانت للوالد هيبة خاصة ترغمنا على احترامه وتقديره. ولا أذكر أنه كان عنيفا أو متسلطا، بل كان حنونا على كل أفراد العائلة، وكل أصدقائه كانوا يأتون إلى بيته من كل المدن تقريبا، وخاصة من الأقاليم الجنوبية. 9 زوجات و 26 ولدا < سمعنا أن سعيد الجماني تزوج أكثر من مرة؟ فكم وصل عدد زيجاته؟ تزوج أبي 9 مرات، في البداية تزوج بأربع زوجات، وطلقت بعضهن، ثم تزوج مرات أخرى إلى أن وصل عدد زيجاته 9 زوجات. - وكم عدد الأبناء الذين أنجبهم؟ أنجب 26 ابنا وابنة، تربوا في بيت واحد وضمن عائلة واحدة. > وكيف كان يتعامل مع أبنائه من زوجاته المطلقات؟ لم يكن يميز قط في علاقاته مع أبنائه، فقد كان يعاملنا نفس المعاملة، ونفس القول ينطبق على زوجاته المطلقات، حيث كن يحضرن إلى البيت لزيارتنا، وكنا نعاملهن كأمهات لنا، ولم يسبق له أن اعترض أبدا على دخولهن إلى البيت، لأنه كان مصرا على جمع شمل العائلة. - هل لا زلت تذكر كيف كانت أعراس سعيد الجماني؟ أقام والدي زفافه الأول على الطريقة البدوية الصحراوية مثل كل شبان المنطقة، لكن زواجه الثاني والثالث والرابع وغيره أقيم بدون حفل لأن هذه عادة قبيلته آنذاك. > وهل اختار زوجته الأولى بنفسه أم زوجته عائلته؟ جرت العادة في تلك الفترة أن يختار الأهل العروس للأولاد، وقد كان شائعا عند سكان القبيلة آنذاك زواجهم من بعضهم البعض ومن القبائل المجاورة حفاظا على تماسكها، وحرصا على الترابط والتلاحم القبلي، وخاصة بالنسبة إلى الأشخاص الذين كانوا يمارسون السياسة. - كيف كان يعامل زوجاته؟ كان يعاملهن بالمعروف، وكان يحترمهن كثيرا ويقدرهن، وقد كان يعطي للمرأة مكانة مميزة. > هل كان يستشيرهن في قراراته؟ كان الجميع يثق بوالدي، وبالتالي كنا نثق بقراراته حتى وإن لم يتشاور مع أحد منا، وكذلك الأمر بالنسبة إلى زوجاته، وهذه الثقة تبلورت نتيجة عدة مواقف معينة مررنا منها. - مثلا؟ > كان والدي يتخذ قرارات سياسية موفقة بشهادة رموز وشخصيات سياسية لها وزنها، وكان ينظر إلى الأمور دائما بشكل إيجابي، ولم يسبق له أن خذلنا في الثقة التي وضعناها فيه. - هل كان له أعداء معينون؟ > رغم الوضع المؤلم الذي عشناه في ظل الاحتلال الاسباني، ورغم المسؤوليات الكبيرة التي تقلدها، حيث كان رئيس الجماعة الصحراوية في العهد الاسباني، وعضوا في مجلس النواب الإسباني«ديس كورتس»، لكن ومع ذلك لم يكن له أعداء وخصوم. لقد كان محبوبا من طرف الجميع، وكان بيتنا قلما يخلو من الأصدقاء والشخصيات المرموقة، وهذا ما ميزه في حياته. ذكرى أليمة - ما هي أكثر ذكرى تألم فيها والدك؟ تألم والدي، رحمة الله عليه، كثيرا عندما توفي والده على الخصوص. > وما هي أكثر ذكرى أسعدته؟ في سنة 1975 وقبل انطلاق المسيرة الخضراء بشهور ضاعفت القوات الإسبانية من سيطرتها، وأذكر أننا كنا نتجول عندما كنا صغارا بإذن من الجيش الإسباني، وهذا الأمر كان يؤلم والدي كثيرا، كما أذكر أن والدي تركنا أسبوعا كاملا وذهب إلى إسبانيا، وبعد ذلك سمعنا مثل بقية الناس أنه قدم البيعة للملك الراحل الحسن الثاني. لم نفهم آنذاك أي شيء، لكن عندما عاد والدي كان فرحا جدا، وأعلن ذلك أمامنا وقال لنا إننا سنصبح أحرارا، وإن الصحراء أصبحت مغربية، وأننا سنتخلص من الجيوش المرابطة لنا دائما، وأننا سنعيش حياة عادية، وسندرس العربية لأننا كنا ندرس الإسبانية فقط، وسنحفظ القرآن.. لقد كانت هذه أسعد ذكرى عشناها مع والدنا. - ألم تدرسوا اللغة العربية آنذاك؟ > بدأنا ندرس العربية بعد تقديم البيعة سنة 1975، حيث تولى والدي مهمة تدريسها لنا، لقد كان لنا أبا وأستاذا في نفس الوقت. سعيد الجماني والنكت < ما هو السبب الذي أدى إلى ارتباط اسم سعيد الجماني بالنكت؟ هذا لا ينطبق على المغرب فحسب، ففي جل الدول نجد أشخاصا مرموقين حققوا إنجازات مهمة تلتصق بأسمائهم أشياء لا دخل لهم فيها ولم يتسببوا في ظهورها، وهذا بالضبط ما حدث مع والدي. فقد كان شخصية جد مرموقة ومحترمة دوليا، وقد ذاع صيته أكثر بعد القرار الذي اتخذه في ما يخص البيعة وبعد الاستقبال الذي خصه به الملك الراحل الحسن الثاني، والاحترام الذي كان القصر يكنه له، وكل هذه الأمور ساهمت في خلق مجموعة من النكت التي تصور شخصية سعيد الجماني في صور لا علاقة لها بالواقع. - وكيف كان موقف والدك من هذه النكت؟ > كان والدي بطبيعته مرحا وبشوشا ويحب المستملحات والطرائف على الطريقة البدوية الصحراوية، ولم يكن ينزعج منها، بل كان على يقين تام بأن شخصيته المتميزة هي التي ساهمت في ظهور هذه الطرائف، وكان يتلقاها بصدر رحب. - هل كنتم تنزعجون باعتباركم أبناءه من هذه النكت؟ > بكل تأكيد. في الأول كان لنا موقف معين منها، لكن بعدما فهمنا الأسباب والدوافع التي أدت إلى اختلاق بعض الأمور عن والدنا، تقبلنا الوضع، خاصة عندما علمنا بأن أغلب الشخصيات العالمية المشهورة لم تسلم من النكات، وأدركنا آنذاك بأن تميز والدانا وإنجازاته التي تستحق كل تقدير تغنينا عما يقال وما يشاع، ولو لم يكن والدنا مشهورا لما سمعنا عنه ذلك. علاقته بالقصر - كيف كانت علاقته بالقصر؟ > كانت علاقة مبنية على الاحترام والتقدير. لقد كان والدي دائما يقدر الملوك العلويين، والدليل على ذلك أن علاقته كانت وطيدة بالقصر عندما كان تحت الاستعمار الإسباني، ثم تعززت هذه العلاقة بعد عودته واسترجاع الأقاليم الجنوبية، والاستقبال الذي خصه به الملك الراحل الحسن الثاني، خاصة لما انتقل والدي من العيون إلى إسبانيا، ثم إلى باريس ليعود بعدها ويقدم البيعة للحسن الثاني سنة 1975، ومن خلال كل المراحل التاريخية التي لعب فيها والدي دورا مميزا أصبحت شخصيته تلقى تقديرا كبيرا، ولعل ما قام به الحسن الثاني بخلع سلهامه وتقديمه لأبي يعد أكبر تقدير واحترام من طرف القصر، وهذا أكبر شرف يلتصق بعائلتنا وباسم الجماني. - ماذا خلف لكم اسم الجماني؟ > يعتبر ماضي والدنا أكبر إرث تركه لنا، وبصماته الراسخة في تاريخ المغرب تجعلنا نفتخر به دائما، وهذا ما يجعل كل من يعرفنا يحترمنا ويقدرنا، واسمه سيظل ينتقل عبر أجيال وأجيال، رغم عدم وجود مدونات تاريخية عن شخصية سعيد الجماني. - ما هي أهم الشخصيات البارزة التي التقاها والدك؟ > التقى بالملك محمد الخامس سنة 1956 مع مجموعة من الصحراويين، وكانت المناسبة تقديم البيعة له بعد عودته من المنفى. ثم كانت له علاقات وطيدة مع مجموعة من الشخصيات كفرانكو، وملك إسبانيا، والأمين العام للأمم المتحدة آنذاك، ومع شخصيات لها وزنها السياسي من موريتانيا وفرنسا، الصين وغيرها من الدول. كما كان ضمن الوفد الذي أعلن البيعة للملك الراحل الحسن الثاني سنة 1976.