التصوف في كتاب أهل العرفان، ربانية واجتهاد في العلم بمقتضى الحق والعمل به، تختلف حدوده بحسب مقامات رجاله في معارج السلوك ومقامات العرفان اللدني، لذلك لا تستقيم دراسته دون النظر في سير هؤلاء والتشوف في مصنفاتهم وآداب مناقبهم، فبهم تعرف حقيقته، وبه يعرفون ويُفضلون.. فبين جحود وظلم لمقامهم، ومغالاة في رواية كراماتهم ومناقبهم، تزداد الحاجة إلى ترجمة أفكارهم لعموم الناس، في مغرب يحرص اليوم على خصوصيته المذهبية، بإحياء قيم التصوف لمواجهة رياح التطرف. عبد السلام بن مشيش أحد أقطاب التصوف في المغرب، ولا تزال أوردته وكراماته تلهج بها أفئدة الآلاف من مريدي الزاوية البودشيشية عبر العالم. ينحدر الشيخ من إدريس الأكبر بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء. كانت ولادته سنة 559 ه - 1198م ويوجد قبره وراء قبر أبيه داخل الروضة بقنة جبل العلم قرب مدينة الشاون بالمغرب. تعلم في الكتّاب فحفظ القرآن الكريم وسنه لا تتجاوز الثانية عشرة ثم أخذ في طلب العلم. كان ابن مشيش شخصا عاديا يعمل في فلاحة الأرض كباقي سكان المنطقة ولم يكن متكلا على غيره في تدبير شؤون معاشه، ولم يكن الشيخ منكبا على العبادة كما يرى البعض، بل الظاهر من خلال أعماله أنه قسم حياته إلى ثلاث مراحل، أعطى المرحلة الأولى للحياة العلمية وأعطى الثانية للانشغال بالأولاد والجهاد وأعطى المرحلة الثالثة للعبادة حيث اختار المقام في الجبل الذي هو به في قرية أدياز الفوقاني حتى مات شهيدا سنة 622 هجرية. كان ذا اجتهاد ومحافظة على الأوراد التي أخذها عن شيخه «عبد القادر الجيلاني»، عن الشيخ عبد الرحمان بن حسن العطار الشهير بالزيات، الذي أخذ عنه علوم الباطن، فنال الحظ الأوفر بأن أتاه اليقين بالمعرفة الربانية، ليظهر منهج جديد في الذكر والمجاهدة والرياضة، سمي ب«الطريقة القادرية البودشيشية»، وظهرت هذه التسمية رسميا على يد الشيخ حمزة القادري بودشيشي، أحد أجداد الشيخ الحالي قاطن «مداغ»، وهي قرية بمدينة بركان في المغرب الشرقي، وقد لقب هذا الشيخ بهذا اللقب لكونه كان يطعم «الدشيشة» وهي دقيق الشعير أيام المجاعات، وخصوصا على عهد علي بن محمد بودشيش. لعل قلة المآثر عن سيدنا عبد السلام بن مشيش، مع عظم قدره الذي رأيناه في تلميذه الشيخ أبي الحسن الشاذلي، هو أنه كان شديد الخفاء، فمن أدعيته «اللهم إني أسألك اعوجاج الخلق علي حتى لا يكون ملجئي إلا إليك» وقد استجاب الله للشيخ مراده فبلغه من الخفاء حتى لم يعرفه إلا الشيخ أبو الحسن الشاذلي، الذي صارت الطريقة تنسب له، أما مآثره العلمية التي وصلتنا عن طريق تلميذه الشيخ أبو الحسن، فهي مجموعة من المرويات التي تتميز بنقاء العبارة وصفائها وتوافقها مع الكتاب والسنة منها : قال الشيخ أبو الحسن : أوصاني شيخي فقال : «لا تنقل قدميك إلا حيث ترجو ثواب الله ولا تجلس إلا حيث تأمن غالباً من معصية الله، ولا تصحب إلا من تستعين به على طاعة الله»، ومن أهم ما وصلنا من النصوص للشيخ عبد السلام بن مشيش هو نص الصلاة المشيشية، وهو نص فريد ما إن تخالط كلماته الروح حتى تحلق بصاحبها في أجواء من السمو وملكوت الجمال، وقد كانت محط أنظار الشراح، ومطلعها: «اللهمَّ صلِّ على مَنْ منهُ انشقَّت الأسرار, وانفلقَتِ الأنوارُ، وفيهِ ارتقَتِ الحقائقُ، وتنزَّلتْ عُلومُ آدمَ فأعجزَ الخلائق». وقد سجلت كتب الأخبار والتاريخ أدوارا مهمة لهذه الزاوية، كالمقاومة ضد المستعمر الفرنسي والاسباني وقدرتها على تشكيل مركز موحد لقبائل مختلفة، خصوصا في عهد الشيخ المختار بن محي الدين، واستمرت الطريقة إلى اليوم، لتعرف إشعاعا منقطع النظير في صفوف عامة الناس وخاصتهم، وامتد إشعاعها إلى كل بقاع العالم، والذين يزورون الشيخ الحالي حمزة بودشيش للدلالة على الله، وزاد من إشعاعها العناية الخاصة لتي تخصها بها الدولة المغربية، سواء من خلال المنحة السنوية أو من خلال أشكال الدعم اللوجيستيكي التي تقدم للزاوية أثناء موسمها السنوي، الذي يجتمع بمناسبة عيد المولد النبوي، وقد استطاع الشيخ الحالي للزاوية أن يعطي للزاوية القادرية البودشيشية بعدا عالميا، حيث تأسست فروع لها في أمريكا وأوروبا وإفريقيا.