قال أحمد مطر الشاعر العراقي الثائر قطفوا الزهرة، قالت: من ورائي برعم سوف يثور، قطعوا البرعم، قالت: غيره ينبض في رحم الجذور، قلعوا الجذر من التربة، قالت: إنني من أجل هذا اليوم خبأت البذور، كامن ثأري بأعماق الثرى، وغداً سوف يرى كل الورى، كيف تأتي صرخة الميلاد من صمت القبور، تبرد الشمس.. ولا تبرد ثارات الزهور تلك هي ملامح حلقتنا لهذا اليوم مدينة مقاومة وصبي علمته الإعاقة فلسفة الحياة، انجلى غبار المعارك وظهر حجم الدمار، ذلك باختصار حكاية مدينة الفلوجة العراقية التي تعيش على فوهة بركان منذ دخول أحفاد العم سام إلى بلاد حامورابي، «المساء» كانت هناك تخفي عدسة كاميراتها عن آلاف العيون المتربصة لترصد لكم نحيب مآذنها. تمتاز مدينة الفلوجة بكثرة مساجدها التي يمكن عدها من خلال مآذنها التي تسبح الباري عز وجل خمس مرات في اليوم، والمدينة يغلب عليها الطابع القبلي تقطنها عشائر الدليم وشمر وعشائر أخرى وهي مدينة سنية مائة بالمائة ومنها انطلقت أول شرارة لمناهضة الاحتلال وقد شهدت خلال سنوات الاحتلال منذ نيسان 2003 أكثر من 17 حملة كما توثق روايات أهل المدينة، لذا تعرضت مآذنها إلى دمار كبير حيث لم يبق من مآذنها المائة إلا ثلاث مآذن، لذا فإن منظر المآذن المغتالة شيء مألوف في فلوجة اليوم التي يصر أهلها على إعادة بناء مآذنها بأموالهم الخاصة كما يخبرنا أحد شيوخ المدينة معللا أن بيوت الله لابد أن تبنى وترمم بأموال حلال لذا لم يقبلوا تعويضا من الجيش الأمريكي أو الحكومة العراقية... اغتيال المآذن يروي لنا عمر العاني (طبيب 32 سنة) أحد شباب الفلوجة كيف أنه كان شاهد عيان على نسف أطول مئذنة في الفلوجة بقذيفة دبابة يقف لحظات يحك لحيته الخفيفة وكأنه يشحذ أفكاره ليقول: لم يكن هناك سبب لنسف الجامع ومئذنته: ويكرر منذ كان عمري سبعة أعوام وأنا أصلي في هذا الجامع لذا كان من الصعب أن أراه يهوي ومئذنته أمام ناظري، يحمر وجهه غضبا ليقول: إنهم يكرهون المساجد. أما أحمد الجميلي (عامل 40 سنة) فيقول كانت مئذنة جامع الجولان جميلة مطرزة بالنقوش وكنا نتسابق ونحن صغار إلى صعودها لمراقبة هلال رمضان أما الآن فنحن ننظر إليها ممدة ونلمس نقوشها التي كانت عصية على المس فيما مضى. الشيخ علاء العبيدي (خطيب مسجد 23 سنة) أحد أصغر علماء الدين في الفلوجة يقول: لقد تعرضت مآذن الفلوجة إلى أوسع عملية اغتيال كنا نرى سلاح الجو الأمريكي يستهدف المآذن بلا سبب، كان يقسوا عليها وكأنها تصوب النار نحوه، يقف ليقول لقد أصبح كل أهل الفلوجة مآذن شامخة ليثأروا من قتلة مآذنها. عمار العيساوي (مدرس 47 سنة) أحد أفراد أكبر قبائل الفلوجة يروي لنا قصة اغتيال مئذنة جامع البوعيسى قائلا لقد صوبوا نحوها أسلحتهم المختلفة وكأنهم يقاتلون الرجال رغم أن المآذن كتل إسمنت لا حول لها ولا قوه وأن أهل الفلوجة يعتبروها أحد معالم مدينتهم ويفتخرون بها لأن الآذان يرفع من خلال مكبرات الصوت المعلقة على تلك المآذن، ويختم حديثه معنا قائلا بالصبر والثبات سنجهض محاولات الغزاة لهدم وإخفاء المعالم الدينية في المدينة التي مازالت تسبح ضد تيار التطبيع مع الغزاة, والكلام لعمار العيساوي. شموخ المآذن منظر أنصاف المآذن تذكرك إلى حد كبير بمنظر الفارس الذي يقف شامخا رغم جراحه، فأهل المدينة مصرون على إعادة ترميم مآذنهم بأنفسهم إلا أن أصواتا كثيرة تنادي بإبقاء بعض أطلال المآذن في المدينة شاهدة على همجية الغزاة, بحسب وصف أهل المدينة الذين يتداولون قصة قناص المآذن الذي كان يتحصن بالمآذن العالية لتصويب نيرانه نحو الغزاة والذي أذاق الجيش الأمريكي الموت الزؤام كما يروي أبناء المدينة لكنه تخلى عن فكرة التحصن بالمآذن نزولا عند رغبة أهل المدينة من هنا يتضح حجم العلاقة التي تربط أهل مدينة المآذن بمآذنها. الفلوجة عبر التاريخ الفلوجة بلدة واقعة على الضفة اليسرى لنهر الفرات وهي مركز قضاء تابع إلى محافظة الأنبار أكبر المحافظات من حيث المساحة. واستحدث القضاء بموجب الإدارة الملكية المرقمة (866)في سنة 1926 ويقطن الفلوجة 149،681 نسمة بحسب نتائج التعداد العام لسنة 1987 يعيش (109733) نسمة في المناطق الحضرية و(39948) نسمة في المنطقة الريفية أرضها سهلة رسوبية تكونت من ترسبات نهر الفرات وتعتبر الأرض في مستوى النهر, لذلك كانت المدينة عرضة لفيضانات عدة لا يزال أهلها يتناقلون أخبارها منذ عقود، مناخها يمتاز بأنه حار صيفا ومعتدل شتاء، واسم الفلوجة في العربية يعني الانشطار آو الانفلاج حيث إن موقع مدينة الفلوجة في موضع منفلج فيه ضفة الفرات، كما أن الفلوجة لغة الأرض الصالحة للزرع وجمعها فلاليج ويبدو آن اسم الفلوجة جاء من طبيعة الأرض التي قامت عليها وهي أرض صالحة للزراعة وما تزال كذلك وقد نسب إليها قوم وسموا الفلوجيين، ولعل اسم الفلوجة في العربية معرب عن اسم موضع قديم ورد في المصادر المسمارية بصيغة بلوكتو, وورد أيضا في المصادر الآرامية موضع باسم «بلوكتا» وذكرها الطبري في حوادث عام 12 ه (633)م كما ذكرها ياقوت الحموي فلاليج السواد وخص فيها فلوجتين الصغرى والكبرى، وكان يتفرع من نهر الفرات عند الفلوجة قناة تعرف في التاريخ باسم نهر ملكا وعرفها بعض كتاب الإغريق باسم فلومن رجيوم وسماها كتاب العرب نهر الملك، وتخرج هذه القناة من نهر الفرات وتجتاز القسم الشمالي من الثغرة الواسعة التي تفصل بين رابية الفلوجة وبين رابية ظهر المجسة وتتصل بنهر دجلة إلى الجنوب بقليل من منطقة سلوكيا- طيسفون (جنوب المدائن بثلاثة فراسخ ) وهذا مما سبب نقل السلوكيين مركز حكمهم في سهل العراق من بابل على نهر الفرات إلى سلوكيا على نهر دجلة. ويستدل من كتاب العصر الروماني بأن مجرى النهر المذكور كان ملاحيا تصعد فيه سفن التجار وتنزل. ويستنتج مما تقدم أن هذا النهر قد لعب خلال بعض مراحل التاريخ القديم للعراق دورا هاما في الناحيتين الاقتصادية والسياسية. الفلوجة على لسان الصبي أحمد سرحان: لو كانت لدي يد غير مصابة لوقفت في صفوف من يقاتل الاحتلال. أحمد سرحان صبي في الخامسة عشر من العمر، ولد مع الإصرار من رحم واحد، يحمل عنفوان مدينته، يقارع إعاقة يديه بقدميه، ملحمة إنسانية تستحق الاحترام والتدوين، لاسيما وأن بطل هذه الملحمة يعيش في مدينة المساجد الفلوجة. الطفل سرحان الكاميرا محرمة في المدينة فكل تصوير في رأي القوات العسكرية مشروع فضيحة حتى وإن كان الأمر متعلقا بتدوين قصة إنسانية، لذا كان علينا أن نخفي الكاميرا ونستعين بأهل المدينة لنصل وإياهم إلى دار الصبي أحمد سرحان، المعروف من قبل الصغار والكبار بعد أن شاعت أخبار قدرته على تطويع قدميه لتقوم بدور اليدين والقدمين معا، صبي في مصاف النجوم فهو جزء من أحاديث المقاهي في مدينته وأغلب المدن العراقية، حفاوة وكرم أهل المدينة مع ضيوفهم شيء لا بد أن يذكر، فقد كانوا حريصين علينا بشكل غريب، إلى أن وصلنا بيت أحمد الذي يتوجب على زائريه أن يمشوا خمسمائة متر رافعين أيديهم لأن الدار وساكنيها في منطقة تقع تحت قرار فوهة بندقية قناص أمريكي يستفهم عن الغرباء بالرصاص لا بالسؤال، وهناك استقبلنا أحمد سرحان بحركات يثقلها العوق من جهة ويستنهضها العزم من جهة أخرى. حضر التجوال ولأن المدينة تعاني من حضر التجوال الذي يبدأ منذ الساعة السابعة مساء وينتهي عند السادسة صباحا وافقنا على البقاء في ضيافة أحمد لنسجل لكم مشاهداتنا قبل أن نجري حوارنا معه، أغرب ما شاهدناه أن نرى شخصا يغسل وجهه بقدميه في محاولة للتسلق على الإصابة والتحايل عليها يغسل وجهه وأذنيه بعناية ليكمل وضوءه استعداد للصلاة، وفي انتظار طعام العشاء أصر أحمد على أن يسمعنا بعض الأناشيد الدينية الفلوجية في مسجلته الخاصة التي تعمل بالبطاريات وذلك لأن الكهرباء هو الضيف الذي لا يأتي إلا نادرا مما اضطرنا لإكمال موضوعنا على ضوء مصباح غازي يقول عليه احمد بابتسامة انه يصنع خصيصا للعراق بعد أن انتفت الحاجة إليه في دول العالم، لا يكف احمد عن تمرين قدميه لأنه يقول إن التمرين المستمر سيجعله يسخرها بشكل أفضل عوضا عن الأطراف العليا، راقبته طوال فترة بقائنا في ضيافته، إنه يستطيع أن يعمل أي شيء بقدميه لكنه لا يرفعها في الدعاء إلى رب السماء لأنه يستحي من الخالق العظيم كما يقول احمد سرحان والغريب في الأمر هو طابع التحدي الذي يمتلكه هذا الصبي فهو يرفض مساعدة أحد مصرا على أنه يستطيع أن يعتني بنفسه ويرتدي ملابسه وحده ويحاول أن يتصرف كبقية أفراد الأسرة فرغم أن إعاقته التي تجبره على الحركة السلحفاتية لكنه يقنع من حوله بأنه يلهو كغزال في صورة تستنشق التحدي. الصبي المقاوم بعد أن تناول طعامه منفردا بطلب منه معللا ذلك بعدم رغبته في إزعاج الآخرين لغرابة طريقة تناوله للطعام ولكي يأخذ راحته في تناول الطعام وعلى هدير ملء أقداح الشاي أبو الهيل حاورناه: > كيف استطعت أن تقوم بكل هذا؟ يضحك بثقة عالية قائلا: إنه شيء عادي ولدت معاقا فإما أن أكون عبئا على العائلة وأنال الشفقة أو أن أتغلب على الإعاقة وأكسب احترامهم لذا تمرنت كثيرا إلى أن وصلت إلى ما تروه. > كلام جميل وجواب ذكي. .. يقاطعني بإصرار ليقول لي إنه الفلوجة!! > لماذا تلقب نفسك بالفلوجة؟ أنا انتصرت على الإعاقة رغم صعوبتها والفلوجة انتصرت على الأمريكان رغم قوتهم. > كيف ينظر إليك الناس في مدينتك؟ الكل يحترمني ويعاملوني بشكل طبيعي فالإنسان هو من يفرض احترام الناس له بأخلاقه، والإعاقة ربما تجعلهم يتعاطفون معي ولكني أقول لهم دوما أن الله إذا أحب عبدا ابتلاه والكل يصر على مصافحتي عندما يروني في شوارع المدينة. > وكيف يصافحوك؟ المصافحة تكون بالتقبيل فمن يحب أن يدنو مني ليقبلني أبادر أنا بفعل مماثل وبذلك أكون قد صافحته. > ماذا يمكن أن تقوم به غير ما رأيناه؟ بسبب أن بيتي يقع في منطقة عسكرية كان بودي أن أريكم كيف ألعب كرة القدم مع أصدقائي وكيف أقوم بتبديل إطارات السيارات حتى أن جنود الاحتلال طلبوا مني أن يصوروني ولكني رفضت لأنهم غزاة لا أتعامل معهم أبدا، يتنهد قائلا كانت حياتنا حلوة قبل قدومهم كنا نذهب إلى الجامع ونخرج لصيد السمك ونلعب كرة القدم في الشارع وكنت أفضل أن أكون حارس مرمى ولكن لا مكان للعب الآن بعد أن أصبحت أغلب المدينة منطقة عسكرية. > احمد ما هي أمنيتك؟ ربما لن تنشرها > أمازحه قائلا وهل هي غير قابله للنشر؟ أتمنى لو أني أملك يدا واحدة لأقتل الغزاة، لو كانت لدي يد واحدة لساعدت قدماي للتسديد صوب الأمريكيين الذين يجوبون طرقات المدينة فانا لا أنسى من فقدتهم في أحداث الفلوجة الأولى والثانية من أهل وأقرباء وأصدقاء كل هذا بسببهم لأنهم يفتحون النار دوما بلا رحمة كلمات احمد سرحان أشعرتني بالعجز وأشعرتني بقيمة ما أعطانا الله جل في علاه واكتسبت منها دروسا ليست موجودة في كل الكتب التي قرأتها. وختاما لابد لنا أن نقول التقطنا لأحمد العديد من الصور ولكن داخل بيته فخارج الدار الكاميرا تعامل كأنها سلاح, تصادر ويسجن صاحبها ؟!