تجديدا للذكرى... وإحياء للوفاء... مضت 55 سنة على ملحمة (نوفمبر) 1954 الخالدة. وهي ملحمة لا لكثرة ما سقط فيها من «لحم» الشهداء ولكنها ملحمة بكثرة ما نطق فيها وبها الأبطال بالحرية والاستقلال. فأبلوا بلاء حسنا مضحين بالغالي والنفيس في سبيل نصرة الدين وتخليص الجزائر من قبضة النار والحديد. وهذه الملحمة تعتبر نقطة تحول وتتويجا للمقاومة الشعبية الجزائرية. فقد جسدت بصدق وإخلاص الكفاح المسلح للشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي بدءا من ثورة الأمير عبد القادر والمقراني وما تلاهما من ثورات الثوار المتتالية. حقبة تاريخية هامة حافلة بالنشاطات العسكرية والسياسية لجيش التحرير الوطني، وجبهة التحرير الوطني، وبالإحداث الهامة التي مرت بالثورة حتى النصر المظفر. والشعر ? بطبيعته- كان ولا يزال وسيظل سجلا حافلا بالأحداث ناطقا بالملاحم والبطولات... فقد واكب شهر (نوفمبر) الأغر من مدار أشهر الثورة الجزائرية الخالدة وثورة المليون ونصف مليون شهيد، خمسون شاعرا ?من مختلف الجنسيات- ساروا مواكب وركبانا ينظمون من الكلمات أنوارا وأشعارا تنضح بصوت الحق مجلجلة في سماء الحرية والاستقلال. خمسون شاعرا يعكسون نضج أو نضوج التجربة الشعرية ?النضالية لهذه الثورة الخالدة المجسدة في شهر (نوفمبر) الخالدة من سنة 1954 وذلك تخليدا لأهم حقبة من أحقاب تاريخ الجزائر، نذكر منهم: الشاعر المرحوم مفدي زكرياء الشيخ، شوقي بغدادي، عبد الوهاب البياتي، محمد صالح باوية، محمد بلقاسم الخمار، أحمد عبد المعطي حجازي، صالح خرفي، عاتكة خزرجي، طلعت الرفاعي، هاشم الرفاعي، محمد العيد آل خليفة، المرحوم محمد الهادي السنوسي الزاهري،... وآخرون إلى حيث نهاية (خمسون شاعرا). وقد عمدت مجلة «الثقافة» وهي مجلة تصدرها وزارة الإعلام والثقافة بالجزائر ( مرة كل شهرين) ابتداء من عددها (22) غشت/الجزائرية الى نشر ديوان بمشاركة (خمسين شاعرا) في ركب ثورة (نوفمبر) الخالدة وهو ديوان ينشر في حلقات كل شهرين برسم وخط الشاعر ، خمسة شعراء في كل حلقة. أي(خمسون شاعرا) في عشر حلقات . من خلال هذا الجرد التاريخي ? النظري الذي يكفينا مؤونة البحث عن التفاصيل سنعرض فقط الحلقة الثانية المكونة من خمسة شعراء خلدوا ثورة (نوفمبر) نذكر منهم: الشاعر المرحوم مفدي زكرياء آل الشيخ (جزائري)، شوقي بغدادي (سوري)، عبد الوهاب البياتي (عراقي)، محمد صالح باوية (جزائري)، محمد بلقاسم الخمار (جزائري). 1- مفدي زكرياء آل الشيخ ولد سنة 1913م في واحات وادي ميزاب (بني يزفن)، تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي والجامعي بتونس. نشاطه السياسي حافل: فقد انخرط في سلك الشبيبة التونسية (1922) ثم في حزب نجمة افريقيا الشمالية من طرف السلطة الاستعمارية وتأسيس بدلا عنها (حزب الشعب) الذي صار أمينا عاما له ثم واصل نضاله في حزب (الانتصار للحريات الديمقراطية) بعد حل حزب الشعب ، وأخيرا في منظمة (جبهة التحرير). دخل السجن مرات عديدة ثم أفرج عنه عام 1959، وفر إلى المغرب ثم تونس حيث تعاون مع جهاز الحكومة الجزائرية المؤقتة في وزارة الإخبار. وكان نشاطه الفكري حافلا أيضا ، حيث كان يشارك بأحاديث أدبية وأبحاث فكرية في إذاعات ومرئيات المغرب العربي ونظم جل قصائده في غياهب السجون. من دواوينه المطبوعة: (اللهب المقدس)، (تحت ظلال الزيتون)، (الياذة) الجزائر)، (الانطلاقة)... وتآليف أخرى نثرية. وهو صاحب النشيد الجزائري الرسمي (قسما) ونشيد الجهاد السياسي (نداء الجزائر) ونشيد (الربروس) وغيرها من الأناشيد الكثيرة. حامل لوسام الكفاءة الفكرية من الدرجة الأولى من عاهل المملكة المغربية، ووسام استقلال (الدرجة الثانية) من رئيس جمهورية تونس، ووسام الاستحقاق الثقافي من رئيس جمهورية تونس. والقصيدة التي سنعرض أبياتها هنا تحت عنوان (اقرأ كتابك...) نظمها الشاعر بقعر الزنزانة رقم 375 (بسجن البروفاية) بمناسبة الذكرى الرابعة للثورة الجزائرية يوم فاتح نوفمبر 1958، وألقيت بالنيابة في إذاعة صوت العرب بالقاهرة. وهي تعد من القصائد العلويات في الثورة والكفاح لما تزخر به من تثوير وحماس. والقصيدة في نبرتها الحماسية شبيهة ب (المارسييز) الفرنسي. ومطلعها. هذا (نوفمبر) ... قُمْ وَحَيِّ المِدْفَعَا وَاذْكُر جهادك ... والسنين الاربعا! واقرأ كتابك، للأنام مُفصَّلاً تقرأ به الدنيا الحديث الأروعا! وَاصدَعْ بثَورتِكَ الزمان وأهله واقرع بدَولَتِكَ الوَرَى، وَ(المجمَعَا)! واعقَدْ لحقِّكَ، في المَلاحِمِ ندْوةً يَقِفَ الزَّمانُ بِها خطيباً مِصْقَعَا! وقُلِ: الجزائر ...!! واصْغِ ان ذُكِرَ اسْمُها تجد الجَبَابِرَ ... ساجدين ورُكَّعَا! الاستفتاء والاقتراع إشارة إلى مناورة فرنسا عام 1958 في تصفية الجزائر، فقد اقترحت فرنسا إجراء استفتاء على المواطنين: هل يرغبون في مواصلة الثورة أم لا. وهل يريدون بقاء فرنسا أم لا. والجواب الصحيح هو المقارعة بالسلاح، لا الاقتراع بالأوراق والألواح. وقد قال الشعب الجزائري كلمته الفاصلة يوم غرة نوفمبر 1954. 2- شوقي بغدادي ولد عام 1921 في سوريا. تخرج من كلية الآداب (شعبة اللغة العربية وآدابها). انخرط في سلك التدريس. اشترك في تأسيس أول رابطة للكتاب السوريين والتي تحولت إلى رابطة للكتاب العرب فيما بعد. له العديد من الدواوين الشعرية، و المقالات والمحاضرات. مثل سوريا رسميا لأول مرة في مؤتمر الأدباء العرب الثالث الذي انعقد في القاهرة 1958. دخل السجن ثلاث مرات بسبب أفكاره السياسية، وأشعاره الثورية. شارك في مؤتمر الأدباء العرب التاسع بتونس 1972، ومهرجان المربد الشعري الثالث في البصرة 1974. والشاعر شوقي بغدادي من الشعراء السوريين المجيدين وان كان يعتبر في عداد الشعراء المغمورين، فقد كان أجود ما يكون الجود في هذا الشهر الأغر (نوفمبر). ساهم بنظم قصيدتين من (الشعر الحر) الأولى بعنوان «جزائرية» و الثانية بعنوان «جملة تصلي». في القصيدة الأولى «جزائرية» يناجي الشاعر الشهيدة (جميلة بوحيرد) بهذا المطلع: لو مرة ودعت أحبابي وانعقد الصمت على بابي لو مرة رميت في حفرة وانقطعت جميع أسبابي لو مرة يئست من أمتي من اخوتي، من كل أصحابي اذن لعاد القلب منك الصدى فأورقت في القبر أخطابي وامتلأت بالزيت قارورة يحيا بها مصباحي الكابي جزائري، يا جذع زيتونة صامدة في وجه حطاب لن يقطعوا الا تول بيتهم فليهنؤوا بسقط اخشاب اني ارى الجذور تنشق عن غَوْرٍ، وعن ظِفرٍ، وعن ناب وفي القصيدة الثانية «جميلة تصلي» وهي مستوحاة من أخبار التعذيب الوحشي الذي كان يمارسه زبانية الاستعمار الفرنسي على المناضلين الجزائريين المعتقلين وبينهم «جميلة بوحيرد». ناهيك عن الحملة العالمية التي نشبت عام 1958 لاستبدال حكم الإعدام النازل بالمناضلة المذكورة بالسجن في سبيل نصرة القضية الجزائرية. 3- عبد الوهاب البياتي ومن الشعراء غير الجزائريين كذلك الذين كان لهذا الشهر الأغر (نوفمبر) صدى في أشعارهم نجد الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي وهو من مواليد بغداد عام 1926. تخرج في دار المعلمين العالية ? كلية التربية. اشتغل بالتدريس، غادر العراق لأسباب سياسية، عاد إليه بعد ثورته العارمة. عين مستشارا ثقافيا في السفارة العراقية بموسكو ومدرسا للأدب العربي في جامعة موسكو. وباحثا علميا في معهد شعوب آسيا. من دواوينه الشعرية: (ملائكة وشياطين). (أباريق مهشمة). (المجد للأطفال والزيتون) (اشجار في المنفى)، (عشرون قصيدة من برلين) (كلمات لا تموت). وغيرها من الدواوين الكثيرة. و قد ساهم تخليدا لهذا الشهر (نوفمبر) بثلاث قصائد الأولى: اغنية انتصار ... إلى المغرب وتونسوالجزائر ومطلعها: باسم أبطالك ياخيمة أفريقيا النجوم.. والأفاحي والكروم والعصافير الصغيرة والهوى والأرض والإنسان ياشمس الظهيرة باسمهم غنيت..غنوا للسلام للعيون المغربية في الخيام العربية تتحدى الموت في أوراس..في ليل الجراح وفي القصيدة الثانية «الموت في الظهيرة» وهي مهداة إلى العربي بن مهيدي الزعيم الوطني الجزائري الذي قتله البرابرة الفرنسيون في زنزانته في السجن. ومطلعها: قمر أسود في نافذة السجن، وليل وحمامات وقران وطفل اخضر العينين يتلو سورة «النصر» وفل من حقول النور، من افق جديد قطفته يد قديس شهيد يد قديس وثائر ولدته في ليالي بعثها شمس الجزائر ولدته الريح والأرض وأشواق الطفولة وستبقى بعده الشمس هنالك في ليالي بعثها، شمس الجزائر تلد الثائر في أعقاب ثائر وفي القصيدة الثالثة: «المسيح الذي أعيد صلبه» وهي مستوحاة من ذكرى استشهاد المناضلة الجزائرية «جميلة بوحيرد» ومطلعها: كل ما قالوه كذب وهراء اللصوص الشعراء الحواة الأغبياء إنني أحسست بالعار لدى كل قصيدة نظموها فيك يا أخت الشهيده وأنا لست بصعلوك منافق ينظم الأشعار مزهوا وأعواد المشانق لأخي الانسان بالمرصاد أعواد المشانق وأنا لست سياسيا، خطيبا، فالمنابر يا جميلة ان ثلجا أسود يغمر بستان الطفولة ان برقا أحمر يحرق صلبان البطولة ان حرفا ماردا يولد في ارض الجزائر يولد الليلة لم تظفر به ريشة شاعر. 4- محمد صالح باوية من الشعراء الجزائريين ولد عام 1930، سافر إلى الكويت ضمن بعثة طلابية لجميع العلماء المسلمين الجزائريين. درس في كلية العلوم بالجامعة السورية (دمشق) نظم الشعر تم تركه بسفره إلى بلغراد بيوغزلافيا حيث أتم دراسة الطب، ثم عاد إلى الشعر، والقصيدة التي يساهم بها في تخليد هذا الشهر (نوفمبر) تحت عنوان: «أغنية للرفاق». ومطلعها: يا رفاقي, يا رفاقي في الذُّرى, في السِّجن, في القبْرِ وفي آلام جُوعي قهقه القيد برجلي يا رفاقي, حدِّقوا... فالثأر يجتر ضلوعي يا جنون الثورة الحمراء يجتر كياني ومغارات ربوعي أقسمت أمي بقيدي, بجروحي, سوف لا تمسح من عيني دموعي أقسمت أن تمسح الرشاش والمدفع والفأس بأحقاد الجموع أن أراها ضربة عذراء تغزو بسمة السفَّاح في الحقل الخصيب أقسمت أنْ ترضع النصر وأختي في ضفاف الموت في عنف اللهيب هذه (أوراس) أحلام ثقال في رؤى الجلاد, في ليل الجناةِ أنت أوراسُ أنا... ملءُ كياني وأنا الإعصار في عيد الطغاة 5- محمد بلقاسم الخمار من مواليد 1931 بمدينة «بسكرة» في الجزائر التحق بمدرسة المعلمين بسوريا/حلب. انتسب إلى جامعة دمشق وتخرج فيها من شعبة الفلسفة. ثم اشتغل بالصحافة. كان عضوا نشيطا في (حزب الشعب). ثم حزب جبهة التحرير الوطني. له مساهمات غنية ورائدة في الأدب والشعر والصحافة. والقصيدة التي شارك بها تخليدا لذكرى ثورة (نوفمبر) بعنوان: «دعاء الحق» 1957. بالحق يا جبهة التحرير نعتصم وبالجنود التي غصت بها القمم سيري إلى النصر واجتاحي عوائقه فقد بدا لك كالمشتاق يبتسم يا جبهة رفعت للمجد هامتها كأنها بين طوفان العدا هرم لا السجن لا الغدر يثنيها إذا انطلقت ولا الزمان ولا التهديد والألم قالت فرنسا وما القول من عجب إن كان من قاله في مخه ورم إن الجزائر منذ كانت جزائرها ...! جزءا بها من وراء البحر يلتحم!