في كل مكان تذهب إليه هذه الأيام لا تسمع سوى عبارات الاستنكار بسبب ما تعرضه القناتان العموميتان ساعة الإفطار. كل الصحف تقريبا، إلا تلك التي شارك بعض صحافييها في كتابة سيناريوهات بعض هذه التفاهات، أجمعت على ضحالة الإبداع وسخافة المنتوج. حتى إن الآلاف من المواطنين فتحوا لهم موقعا على «الفايسبوك» للمطالبة بوقف هذه المهزلة المسيئة إلى الذوق والعقل السليم. لكن يبدو أن إدارة القطب العمومي تستمع إلى شكاوى أخرى غير شكاوى المواطنين. ويتعلق الأمر بشكاوى المعلنين الذين لم تستطع «السلاسل» التي راهنوا عليها جلب النسبة المطلوبة من المشاهدين. وهنا يتأكد، مرة أخرى، أن من يحكمون الإعلام العمومي في المغرب هم المعلنون وأصحاب الشركات الكبرى، فهم الذين أصبحوا يحددون ماذا سيشاهد المغاربة وفي أي وقت بالضبط. وبالنسبة إلى بلد يقلد فرنسا في كل شيء، فإنه من المستغرب أن نرى كيف أن الرئيس الفرنسي حذف الإشهار من كل القنوات العمومية في ساعات الذروة، وحدد له فترات زمنية متأخرة في الليل لكي يفسح المجال للبرامج الحوارية والثقافية والإخبارية، في الوقت الذي نرى فيه المسؤولين عن الإعلام العمومي عندنا يبيعون أغلب فترات البث للمعلنين، إلى درجة أنهم أصبحوا يضعون بين الإشهار والإشهار إشهارا. المصيبة في هذا التوجه التجاري للإعلام العمومي في المغرب أن الواقفين وراءه يستعملون شريحة حساسة من المجتمع كطعم للإيقاع بالمشاهدين. ولعل الجميع لاحظ أن ما تقدمه القناتان الأولى والثانية من إنتاجات رمضانية يجذب الأطفال بشكل كبير. وهنا يكمن دهاء ومكر المعلنين «العباقرة» الذين هندسوا للشبكة الرمضانية. وهذا يظهر جليا حتى في الدعاية التي نشرتها القناة الأولى في الصحف، حيث تظهر شاشة التلفزيون مليئة بوجوه الممثلين بينما طفل صغير يتفرج عليها ويضع قبلة فوق التلفزيون. هكذا إذن قرروا أن يستهدفوا الأطفال بالدرجة الأولى، وعندما يضربون «الشوكة» للطفل خلال اليومين الأولين من رمضان فإنهم سيضمنون أن آباء وأولياء الأطفال سيكونون مجبرين على الرضوخ لمطالب أطفالهم، التي تشبه الأوامر في أغلب البيوت المغربية؛ فالمعلنون يعرفون أن الآباء يصبحون رهينة لرغبات أبنائهم، وهكذا تنجح الحيلة. فعندما يتفرج الأطفال فإن آباءهم أيضا يتفرجون. والآباء هم الهدف الرئيسي للمعلنين، لأن الأطفال ليست لهم قدرة شرائية، بل يلعبون فقط دور الطعم الذي يجلب الكبار نحو الإشهار. خطورة هذا اللعب الذي يلعبه المعلنون مع العائلات المغربية تكمن في كونه لعبا يستهدف الربح ولا شيء غير الربح. أما العائلات التي يتابع أطفالها هذه الزبالة اليومية فإنها تخسر شيئا مهما في تربية الطفل هو الاحترام والحشمة. ومن يحلل بتأن عمق القيم التي تروج لها هذه المسلسلات سيفهم أن المستهدف الحقيقي هو تلك البقية المتبقية من الحشمة التي تعتبر المكون الأساسي للأسرة المغربية. إنهم يحاولون تكسير هذا الجدار الأخير حتى يصبح «كلشي مصنطح»، البنت لا تحشم من أبيها والابن لا يحشم من أخته وأمه. بالله عليكم، ما هي القيمة الأخلاقية والكوميدية التي يمكن أن يضيفها دور مثل دور حمادي عمور في سلسلة «نسيب السي عزوز» الذي منذ أن دخل رمضان وهو يتحرش بالخادمة ساعة الإفطار. ما هي الفكرة التي يريدون إعطاءها عن الخادمة المغربية وعن الشيخ المغربي السبعيني الذي اشتعل الرأس منه شيبا. إنهم يريدون ترسيخ صورة مشوهة عن الأسرة المغربية المفككة التي يبحث ربها عن أية وسيلة لرشوة الخادمة من أجل استغلالها وراء ظهر زوجته التي تقضي كل وقتها في مطاردته. وبالنسبة إلى جمهور واسع من الأطفال الذين يتابعون هذه المسلسلات، فالعلاقات العائلية النموذجية يجب أن تكون بهذا الشكل المشوه، تماما مثلما يرونه في التلفزيون. فما يدخل عقل الأطفال في سن مبكرة لا يمحى منها أبدا. ولعل جيل السبعينيات لازال يحفظ عن ظهر قلب الأدوار التي كان يقدمها بلقاس وعبد الرؤوف إلى اليوم. وهنا، تكمن خطورة ما يستهلكه أطفالنا الآن من مسلسلات تخاطبه بلغة صادمة أحيانا وكلمات لا يستعملها المغاربة سوى في الشارع، من قبيل «نشوف معاه» و«مزعوطة فيه» وغيرها من الكلمات التي تحمل مدلولات جنسية ملتوية. ولعل كثيرين لاحظوا كيف رفع المنتجون هذه السنة من نسبة الإيحاءات الجنسية في مسلسلاتهم الرمضانية الموجهة إلى العائلات المغربية ساعة الإفطار. في وقت كان فيه المفروض هو الرفع من نسبة التوعية الاجتماعية الهادفة والساخرة لترسيخ القيم الإسلامية التي يجب أن تقوم عليها الأسرة المغربية المتماسكة. وكأن هؤلاء لا يكفيهم أن دولة عربية كالبحرين طردت نحو المغرب، ساعات قليلة قبل دخول رمضان، 500 عاهرة مغربية من علبها الليلية وفنادقها وملاهيها. وعوض أن تساهم هذه المسلسلات في تقوية قيم العفة والحشمة والأمانة والشهامة والرجولة والوطنية وبقية القيم الأخرى التي نحن في أمس الحاجة إليها في هذا الزمن الأغبر، نراهم يفضلون تشجيع الأطفال على كسر حاجز الحشمة مع آبائهم عبر حوارات ذات إيحاء جنسي، مليئة بكلام الأزقة. ولا تكتفي هذه «السلاسل» بتحطيم حاجز الحشمة داخل الأسر المغربية بل أيضا بتحدي المذكرات الوزارية، ويتعلق الأمر بمذكرة وزير الداخلية التي تمنع تعاطي الشيشة في المقاهي. وقد رأى الجميع كيف قدمت سلسلة «نسيب السي عزوز» مدخنين للشيشة جالسين في المقهى «يخرخرون» بخراطيمهم وينفثون دخان الشيشة على المشاهدين. وقد كان أولى بمخرج السلسلة، الذي لا يخجل من الظهور مع «أبطاله» في جنريك البداية في سابقة هي الأولى من نوعها في عالم الإخراج، أن يزيل هذه اللقطة احتراما للعمل الذي تقوم به جمعيات مكافحة التدخين، وعلى رأسها جمعية لالة سلمى لمكافحة داء السرطان التي تصور كاميرا أخبار القناة الثانية كل أنشطتها. لكن المخرج معذور، فهو لا يعرف أن حكومات العالم المتقدم أصبحت تفرض على مخرجي الأفلام السينمائية إزالة كل اللقطات التي تشجع على التدخين أو تروج له. ولذلك فهو يسمح لنفسه بعرض حصة لتدخين الشيشة أمام ملايين المتفرجين، من بينهم نسبة كبيرة من الأطفال سيعتبرون هذه الأداة شيئا مألوفا لمجرد أنها ظهرت في التلفزيون. اللقطات التي كان من الممكن حذفها من البرامج الموجهة إلى المشاهدين والمستمعين خلال شهر رمضان، حرصا على الذوق، كثيرة ومتعددة. فالبرامج كلها مسجلة، مما يتيح إمكانية تعديلها عن طريق المونتاج. ولعل المشاهدين الذين تابعوا حلقة الكاميرا الخفية مع الطيب الصديقي صدموا عندما سمعوا هذا الأخير ينعت الممثل الذي ثقب له لوحته التشكيلية ب«الحمار لاخر». ورغم أن هذه الشتيمة كان من الممكن حذفها قبل عرض الحلقة حتى لا يسمعها الأطفال من فم رجل مسرح مفروض فيه أن يكون قدوة للأجيال الصاعدة، فإن المخرج تركها تمر بدون أي إحساس بالمسؤولية. وفي القنوات التي تحترم مشاهديها، عادة ما يستعمل المخرج رنينا صوتيا مميزا لإخفاء الكلمات النابية التي لا يليق بالأطفال سماعها في أوقات المشاهدة العادية. بعد كل هذا، لا بد من طرح سؤال على درجة كبيرة من الأهمية، ما هو موقف الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري من كل هذا يا ترى؟ هل الهيئة متفقة مع هذه الهجمة الشرسة على الطفولة المغربية واستعمالها كطعم سهل لجلب كبار السن إلى وجبة الإعلانات؟ هل الهيئة متفقة مع اكتساح الإعلانات لمساحات واسعة من البث في إعلام عمومي يدفع المواطن ميزانيته من ضرائبه؟ هل الهيئة متفقة مع الزيادة في نسبة الإيحاءات الجنسية في ما تقدمه القناتان العموميتان للمغاربة في شهر التعبد والصيام؟ هل تملك الهيئة القدرة على وقف هذه الزبالة التي يقذفها المنتجون في وجوه المغاربة يوميا بدون خجل، أم إنها هي الأخرى أصبحت رهينة كبار المعلنين الذين سطوا على الإعلام العمومي وأخذوه رهينة يصنعون به ما يحلو لهم؟ هذا هو السؤال.