المشاهد البسيط، الذي يجلس بعد أذان المغرب لمتابعة السخافة المصورة التي يقدمونها إليه على القناتين العموميتين، يعتقد أن المسؤولين عن هذا القطب هم الذين يختارون له ما سيشاهده خلال رمضان. والحال أن الذين يختارون ويقررون في «النجوم» التي ستمر خلال رمضان هم المعلنون. هكذا، أصبح القطب الإعلامي العمومي رهينة في أيدي الشركات الكبرى الباحثة عن نسب المشاهدة المرتفعة التي يسعى التلفزيون إلى تحقيقها ولو بعرضه لبرامج الزبالة، أو ما يسميه الفرنسيون La télé poubelle. ورغم كل ما قيل وما كتب على امتداد عشر سنوات من تولي فيصل العرايشي مسؤولية التلفزيون العمومي، تستمر المهزلة مع مقدم كل رمضان. الجديد هذه السنة أن هناك نسبة زائدة من «الزعامة الباسلة» في «السلاسل» التي يعرضونها علينا مباشرة بعد صوت المؤذن، والذي لحسن الحظ لم يقرروا بعد توقيف آذانه في حي على الفلاح لزرع الإشهار قبل العودة إلى إكماله. فالناصري لا يجد حرجا في اقتراح تشغيل فتيات جميلات مكان الرجال على صهره لكي يجلب الزبائن، ويفرجه على صورهن انطلاقا من حاسوبه، وفي الأخير عندما يطبق الصهر نصيحة الناصري تأتي الشرطة وتجمع الفتيات بحجة أنهن قاصرات. و«نجوم» سلسلة «كول سانتر» لصاحبتها نرجس النجار، لم يتعبوا في حلقة أمس من ترديد كلمة «مزعوط» و«مزعوطة»، دون أن يعرفوا أن هذه الكلمة لا تستعمل في بيوت المغاربة وإنما يقتصر استعمالها على لغة الشارع. وفوق كل هذا، يتساءل جميع من شاهد الحلقات الأولى من السلسلة عن سبب هذا الإصرار المبالغ فيه على إظهار تضاريس أجساد الممثلات اللواتي لا تتوقف بعضهن عن «التعواج» ورفع أذرعهن إلى الأعلى كما لو أنهن يردن تفريجنا على آباطهن الحليقة. والسي حمادي عمور، الذي اشتعل رأسه شيبا، لا يجد حرجا في النطق بعبارة لا تليق بسنه ولا بالشهر الفضيل، عندما شتم أحدهم قائلا «الله ينعل بوه الكلب». أما إحدى «نجمات» سلسلة نرجس النجار فقد اختلطت عليها الأمور ولم تعد تميز الآيات القرآنية من لغة «الزناقي»، فحورت داخل مرحاض «السانتر» الآية الكريمة من سورة البقرة «حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع» لكي تصبح في حوار السلسلة على لسان إحدى «نجماتها» وهي تتحدث عن الرجال الذين يشتغلون معها في «الكول سانتر» كالتالي: «أصاحبتي مكاين غير النطيحة والمتردية وما أكل السبع». واضح، إذن، أن التوجه التلفزيوني الجديد لهذه السنة يطمح إلى نقل لغة «الزناقي» والمقاهي إلى بيوت المغاربة في وقت تجتمع فيه كل العائلات أمام جهاز التلفزيون. إنه امتداد طبيعي للتوجه «الفني» الذي سار عليه عدد من الممثلين في فيلم «كازانيغرا»، ضاربين عرض الحائط بتاريخهم الفني من أجل حفنة من الدراهم عندما قبلوا بترديد كل تلك الشتائم الساقطة وسب الدين والملة والوالدين. ولعل خطورة ما تقدمه القناتان الأولى والثانية خلال رمضان الحالي، هو استهدافه للأطفال بشكل خاص، فالعبارات والجمل المستوحاة من لغة الشارع والتي يرددها هؤلاء الممثلون تلتصق بمخيلات الأطفال بشكل سريع وتتحول إلى مرجعية لغوية نمطية وعادية لديهم. ولذلك أصبحت العائلات المغربية تجد صعوبة في إقناع أطفالها بالكف عن ترديد المستملحات، أو «المستبسلات»، التي يسمعونها من أفواه هؤلاء الممثلين. كما أن هذه المسلسلات ترسخ قيما اجتماعية أقرب ما تكون إلى «البسالة» منها إلى الضحك والسخرية. وهي «بسالة» مبنية، في الغالب، على لغة الجسد (التعواج وكثرة الماكياج التي تحول وجوه بعضهن إلى طعارج) في غياب حوار حقيقي وموضوع للسخرية. وحسب بعض المشاركين في تصوير سلسلة الناصري، فالرجل كان يأتي إلى بلاطو التصوير بدون نص وبدون حوار وبدون موضوع، ويطلب من الممثلين ارتجال موضوع معين من اختيارهم. وهذا ما يفسر غياب المعنى وحضور الثرثرة الفارغة والضحك الأصفر الذي تظهر معه الأضراس في الحلقات الأولى التي تم عرضها. الحقيقة أنني تجولت عبر أكثر من قناة عربية وحاولت المقارنة بين ما تعرضه هذه القنوات وبين ما تعرضه قناتانا العموميتان، وبصراحة وجدت أن أسوأ منتوج درامي هو المنتوج الذي تعذبنا به الأولى والثانية خلال هذا الشهر. فقناة المنار تعرض مسلسلا عنوانه «الباطنية» بمشاركة صلاح السعدني، وتعرض قناة LBC مسلسل «ابن الأرندلي»، فيما تعرض MBC مسلسل «باب الحارة». وعندما قارنت بين كل هذه القنوات وقناتينا العموميتين، وجدت أن جرعة «البسالة» اللفظية وقلة الحشمة على مستوى اللباس المستفز لبعض الممثلات تنفرد بها قناتانا من دون القنوات العربية الأخرى، وكأن بعضهم أراد أن يستغل شهر رمضان بالضبط لكي يمرر إلى بيوت المغاربة كل قلة الحياء هذه. وحتى قناة روطانا المعروفة بأغانيها وبرامجها المنحلة «دارت عقلها وسترات راسها» خلال رمضان وعرضت مسلسلا متميزا عنوانه «هدوء نسبي» يحكي عن مغامرات صحافيين في خط النار. ولكي تفهموا أن هذا التوجه الاستفزازي لصاحبة سلسلة «كول سانتر» مقصود، يكفي أن تعلموا بأن نرجس النجار سبق لها أن صورت سلسلة اسمها «ماضموزيل كاميليا» بحوالي 500 مليون من أموال دافعي الضرائب تحكي قصة شاب يتنكر في زي امرأة وينجح في كراء غرفة مشتركة مع فتاة وتحدث له معها مغامرات يومية. وهذه السلسلة تم منعها من العرض خلال رمضان بسبب مشاهد قيل إن عرضها قد يخلق حالة من الغليان عند الأسر المغربية المحافظة. مما يعني أن التوجه «الفني» العام الذي تشتغل عليه صاحبة السلسلة هو الاستفزاز، ولهذا السبب تجد أغلب المغاربة يهاجرون خلال هذا الشهر الفضيل نحو الفضائيات بحثا عن درس ديني مفيد، أو عمل درامي مشوق، أو برنامج ترفيهي يحترم ذكاء مشاهديه، ولهذا السبب أيضا بدأ المعلنون المغاربة يطاردون هذا المشاهد إلى القنوات التي يلجأ إليها هربا من السخافة والسفاهة والبلادة التي يمولونها بإعلاناتهم في قنواتنا العمومية. وهكذا، بدأنا نرى إشهارات بالدارجة المغربية في قنوات MBC، لأن هذه الفضائيات العربية بدأت تلتهم نصيبها من كعكة الإعلانات التي كانت تحتكرها الأولى والثانية. ولعل ما يبعث على الشفقة في ما تعرضه علينا القناتان العموميتان هذه الأيام هو استعمال مجموعة من الأسماء التي «هرست» أسنانها في التلفزيون في أدوار الكومبارس. والجميع يتساءل لماذا يقبل هؤلاء الفنانون التضحية بتاريخهم الفني من أجل المشاركة في أعمال سخيفة تسيء إليهم وإلى الصورة الجميلة التي ظل يحتفظ بها المغاربة عن أعمالهم القديمة. فالشعور الوحيد الذي ينتابك وأنت ترى عبد الرؤوف وعبد الجبار لوزير وحمادي عمور، وغيرهم من الممثلين الذين دخلوا الميدان الفني قبل ثلاثين سنة، «يلعبون» في مسلسلات رمضان هو الشفقة لحالهم. وكل من شاهد المحجوب الراجي يمثل دور الكفيف في سلسلة «نسيب السي عزوز» وسمعوا حمادي عمور يصفه ب«الضهصيص»، امتعضوا من هذا الوصف التحقيري الذي يسيء إلى ثلاثة ملايين معاق يعيشون في المغرب، بينهم مئات الآلاف من المكفوفين عوض أن تكرمهم برامج التلفزيون فإنها تهينهم وتسخر منهم في ساعات الذروة. فهؤلاء الفنانون يظهرون في المسلسلات التي «يلعبون» فيها بلا دور تقريبا سوى ملء الفضاء، تماما مثل ملكة جمال المغرب التي تمثل في سلسلة الناصري، والتي تم توظيفها في السلسلة «حيت زوينة وصافي». إن المأساة الحقيقة في كل ما يجري بالتلفزيون اليوم هي أن تمويل كل هذه الرداءة يخرج من جيوبنا. فكل مغربي لديه عداد للكهرباء في بيته يدفع كل شهر مساعدة مالية تذهب إلى التلفزيون، وهذه المساعدة ترتفع بحسب معدل استهلاك الكهرباء. وهناك مغاربة لا يتوفرون على جهاز تلفزيون، ومع ذلك يتم استخلاص هذه المساعدة شهريا من فواتيرهم بسبب عداد الكهرباء، علما بأنه في سنوات السبعينيات والثمانينيات كان باعة التلفزيونات بمجرد ما يبيعون جهازا يأخذون عنوان صاحبه لكي يعطوه للمصالح المختصة بهدف إدراج اسمه ضمن مشاهدي التلفزيون الذين ستستخلص الدولة من فواتيرهم المساعدة الشهرية. الآن، ومع كل هذا التذمر الواسع لكل شرائح الشعب المغربي من برامج التلفزيون العمومي وأخباره، المطلوب من ممثلي هذا الشعب أن يتحلوا بقليل من المروءة ويتقدموا بطلب عاجل إلى الحكومة لكي توافق وزارة المالية على التخلي عن استخلاص أموال التلفزيون من فواتير الكهرباء. نحن لا نريد الاستمرار في دفع مساعدات لهذا التلفزيون المعاق والمعطوب والفاشل. نريدهم أن يكفوا عن استخلاص المزيد من الأموال من فواتير كهربائنا وأن يبحثوا لهم عن ممول آخر يستطيع تمويل سخافاتهم. أما بالنسبة إلى هؤلاء المخرجين وأصحاب شركات الإنتاج والممثلين الذين يقترفون مع رمضان كل هذه الكبائر، فطلبنا الوحيد للعرايشي هو أن يمنحهم الميزانيات التي يريدونها، لكن شرط أن يتوقفوا عن إنتاج هذه الكوارث، ونحن من جانبنا لن نطالبهم برد الأموال التي تسلموها. سنعتبر هذه الأموال ضريبة ضرورية من أجل إنقاذ أبنائنا من الانحراف وتعلم لغة «الزناقي». «واللي بغا غير الفلوس الله يطليه بزبلهم».