شكل أحمد البيضاوي علامة فارقة في تاريخ الفن والغناء المغربي، وأحد أهرامه الشامخة، وهو ما جعله يحظى بإعجاب ودعم الملك الراحل محمد الخامس، وينسج علاقة صداقة مع مشاهير الفن العربي كعبد الحليم حافظ وأم كلثوم والقصبجي. لكن مسار البيضاوي تعرض للكثير من الأقاويل والانتقادات، أبرزها أنه كان يمنع بعض الفنانين من البروز والشهرة، وأنه كان وراء إرسال عبد القادر الراشدي إلى طنجة ومحمد بنعبد السلام على مكناس. - إذا أردنا أن نختزل مسار الراحل أحمد البيضاوي في محطات. ما هي في نظرك أهم المحطات التي ميزت حياته؟ > من الصعب أن نتحدث عن مسار اسم كبير في حجم أحمد البيضاوي في أسطر، فإذا تكلمنا عن البيضاوي فإننا نتكلم عن تاريخ الأغنية المغربية في مختلف مساراتها... نتحدث أيضا عن فكر جديد في الغناء وجرأة في التعامل مع التلوينات الإيقاعية المغربية، ونتحدث عن تحول كبير وإيجابي في الأغنية المغربية، مع احترام تجارب ودور فنانين آخرين ساهموا في تطوير الأغنية المغربية، وكرسوا حياتهم ومجهوداتهم لإخراجها من إطار الفنون الشعبية (العيطة، الأندلسي، أحواش). هذا الكلام لا ينتقص إطلاقا من قيمة هذه الفنون أو رموزها، إلا أنني أتحدث عن بداية تشكل ملامح أغنية مغربية عصرية أو كلاسيكية بمفهوم الأمس. لقد كان البيضاوي يؤمن بفكرة واضحة عن الأغنية المغربية، وكان مؤمنا في الوقت ذاته بإمكانية تحقيقها على أرض الواقع. من دراسة الفقه إلى الموسيقى بحكم أنك عايشت الراحل أحمد البيضاوي لعدة عقود.. ما هي ذكريات بداياته؟ أتذكر حكاياته لنا عن مدى تأثره بجدته التي كانت تغني وتدندن في البيت، وكانت تحمله إلى المسرح. لقد كان والدي يستمع لفن العيطة ويعرف تفاصيلها، واستفاد من تعرفه على أشخاص سبقوه في مجال الأغنية، ومن عرفوه في بدايته يجمعون على أنه كان يمتلك أذنا موسيقية وكان عاشقا للأغنية، وأمام هذا التعلق وجدت عائلته نفسها مرغمة على تأجير آلة موسيقية له، لأنه في ذلك الوقت لم تكن الإمكانيات المادية تسمح بشرائها، وبمرور الأيام بدأت رغبته في تعلم الموسيقى تكبر بشكل كبير، إلى درجة أصبح معها حائرا بين دراسته التي كان مجتهدا فيها، وبين ميوله الغنائية، خاصة وأنه كان يدرس الفقه والعلوم، وفي الأخير اختار مسار الموسيقى وراهن على تعلم أصولها، فتخرج صغيرا، وصارت الموسيقى جزء لا يتجزأ من حياته، يحسها ويعيش معها في كل وقت. وفي صغره أسس أول جوق يحمل اسم «تخت» كعازف للعود، وذلك بمشاركة يهود مغاربة كانوا يعزفون على آلات كثيرة، من بينها الكمان والقانون... من هنا كانت انطلاقة مسار فني طويل. - تكلمت عن معرفته الدينية. ما هو مصدر هذه المعرفة؟ > كان والدي حائرا بين الدراسة والموسيقى، إلا أن هذا لم يمنعه من تلقي تعليم في المستوى المطلوب، على يد الحاج عبد الرحمن النتيفي بأحد أحياء المدينة القديمة بالبيضاء التي تربى وكبر بها، ويحكي من درسوا مع البيضاوي أنه كان نابغة في الدراسة وكان سريع الحفظ، إلا أنه اختار الموسيقى، مع التأكيد على أن هذا الاختيار لم يمنعه من تعلم التفاسير وعلوم اللغة، وكان يتوفر على عدد كبير من الكتب التي راكمها من خلال معرفة كبيرة، وهو ما جعله مرجعا لأصدقائه كما ذكرت سابقا. - ترعرع والدك بالمدينة القديمة بالبيضاء، هل هذا يعني أنه كان ينتمي إلى عائلة فقيرة؟ > كان ينتمي إلى عائلة فقيرة جدا، وهذا أمر لم لكن يخفيه الراحل أحمد البيضاوي، وقد كان يذكر أمه دوما بماضي العائلة، ولم يكن يخجل من القول إنه كان يعيش على الخبز والشاي، شأنه في ذلك شأن العديد من العائلات المغربية حينها. - وهل اسم البيضاوي،هو إسمه الحقيقي؟ > الإسم العائلي للعائلة هو شهبون، وتعود أسباب تغييره لاسمه إلى الفترة التي انتقل فيها إلى الرباط للعمل في القصر الملكي، حيث كان ينادى عليه باسم البيضاوي، فاختار أن يصبح اسمه الفني البيضاوي، مع الاحتفاظ باسم العائلة الأصلي. - من قدم له الدعم في مرحلة البداية؟ > كانت أمه رحمها الله هي أول المساندين له، وهي التي دعمته كثيرا في مساره الفني، ويذكر في هذا الصدد أن خاله اكترى له آلة العود ليجرب عليها إمكانياته، وليكتشف أشياء داخله، وللتوضيح فقد كانت الآلات الكبيرة كالعود والكمان والقانون تؤجر، في حين يمكن اقتناء الدربوكة مثلا. في ذلك الوقت كانت أغلب الآلات حكرا على الأغنياء، ومع ذلك فقد كان والدي يقاوم لأنه كان يتميز بشخصية قوية جدا، وحينما يقرر أن يصل إلى شيء، يصل إليه دون كلل أو ملل، لقد كان والدي يتمتع بشخصية عصامية ويصر على تحقيق أحلامه. حكاية استدعائه من طرف الراحل محمد الخامس - هل صحيح أن الملك الراحل محمد الخامس استدعاه إلى دار المخزن في سن صغير؟ > هذا صحيح. فقد استدعاه الملك الراحل محمد الخامس إلى دار المخزن، وسنه لا يتجاوز 18 سنة، وهناك وجد الموسيقار الكبير مرسي بركات الذي لقنه الكثير من المعلومات في مجال الموسيقى والمقامات. ومع اجتهاده استطاع أن ينهل من أصول الإيقاع، واستطاع بالإضافة إلى عزفه على آلة العود أن يصل إلى مرحلة المقارنة بين المقامات وضبط التفاصيل الغنائية، وقد كان الملك الراحل محمد الخامس يثق في إمكانياته وفي مواهبه، وقد برهن البيضاوي على قدرة كبيرة على التقاط المعلومة واستثمارها، وكان أول من دعا إلى نسبة الأغنية إلى كاتبها وملحنها، لأنه في ذلك الوقت كان يتم بث الأغاني الأندلسية دون أن تنسب إلى أصحابها، وقد اقترح الفكرة على الراحل محمد الخامس فشجعه، وهذه الفكرة استمرت إلى يومنا هذا بفضل أحمد البيضاوي. - تحدث عن دعم أمه في مساره الفني. كيف ترسم طبيعة العلاقة بينهما؟ > كانت علاقة قوية جدا، حيث كان يشاركها لحظات فرحه بعد نجاح لحن ما أو تحقيق هدف معين، ولا يتردد في الذهاب إليها مباشرة إذا كان يعيش فترات صعبة أو لحظة ضيق، إلى درجة أنه كان يزورها أحيانا بعد الساعة الثانية أو الثالثة ليلا ليحكي لها عن آهاته وآلامه، مع أنه كان يعلم أنها لا تفهم في بعض الأوقات ما يحكي عنه، وأنها لا تملك حلا لمشاكله. رجل محافظ - كيف كانت علاقة الراحل محمد البيضاوي بزوجته؟ > تزوج والدي سنة 1947، وكانت علاقته بزوجته علاقة طبيعية، تتسم بالتوازن، وكانت زوجته تمارس مسؤوليتها بكل انضباط، ولم نحس في كل الفترات التي عشتها بجانبه أنه كان بعيدا عنا. لقد كان معنا في كل الأوقات، ولم يتغيب قط عن بيته أو أولاده، وكان يبعدنا عن دخول المجال الفني. - لماذا؟ > لأن الميدان في ذلك الوقت لم يكن شريفا، وكانت المرأة الفنانة منبوذة في المجتمع، كما أن مردوية المجال من الناحية المادية لم تكن محترمة، ولنا أن نستحضر حالة الفنان الكبير حميد بنبراهيم الذي توفي بعد فترة عانى فيها من عدم الاعتراف بجهوده. وهذا وضع يجب أن يعاد النظر فيه لأنه من خلال حفاظنا على تراث الفنانين المغاربة نحافظ أيضا على تراثنا من الضياع، وهنا أتكلم عن مسؤولية مكتب حقوق المؤلف الذي يجب أن يبذل مجهودا يوازي التضحيات التي قدمها هؤلاء الفنانون لفننا المغربي، وهنا أقول إن زوجة الراحل تعيش على العفاف والكفاف، وليست في حاجة إلى أحد، لكنني أقول يجب إحقاق الحق وإعطاء الفنانين حقهم. - ما هي الصفة المميزة لأحمد البيضاوي؟ > كان تقليديا محافظا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وهذا الطابع المميز يبرز من خلال علاقته وسلوكه العائلي والمهني. كما كان يحب الاجتماع ويحب مخالطة الناس، وأن يكون برفقة الأصحاب والعائلة والأقارب، وكان يداوم على قراءة القرآن، وشغوفا بالشعر والأدب والتفسير، ومولعا بالأكلات اللذيذة التي تتفنن زوجته في تحضيرها. - هل كان الراحل يتدخل في اختياراتكم، لاسيما في ما يتعلق بالزواج مثلا؟ > كان يترك لنا واسع الاختيار في اتخاذ القرارات المصيرية التي تهم حياتنا الخاصة، وكان يفتح لنا باب الحوار على مصراعيه، وفي مقابل ذلك كان يضع لنا الإطار الذي لن نختلف معه فيه، مع حضور معطى الحرية في الاختيار، وكان يبرز المسار الذي نتقاسمه معه دون اختلاف. - هل أنت الإبن الوحيد لأحمد البيضاوي؟ > أنجب والدي ولدين هما فوزي وعزيز الذي يكبرني، وله أيضا ابنة أخرى أكبر منا كانت ابنة زوجته من زواج سابق، وكان يعتبرها بمثابة ابنته، ولذلك كان لا يقيم فرقا بيننا، وكان يعامل أبناء أختي لطيفة، كأنهم أحفاده دون تمييز. - وهل هناك ذكريات عن تسميتكما (فوزي، عزيز)؟ > هناك تفاصيل لا أريد الخوض فيها، لكن أقول باختصار إن محمد الخامس اختار اسمينا، وعن تسمية عزيز قيل إن أحمد البيضاوي كان يغني لمحمد الخامس أغنية «حبيب القلب»، وبعد سماعه بخبر ميلاده، قال محمد الخامس: «هذا حبيب القلب»، فاختار كلمة عزيز كاسم لأخي. - هل كان يشتكي من أناس حاربوه؟ > بالفعل هناك أشخاص حاربوه، وهذه مسألة عادية في مسار الفنان، وللأسف فإن البعض حاول أن يدخل في جدال عميق حول مساره، وقيلت أشياء كثيرة حاولت النيل من سمعته حول رئاسته للجنة الأغنية بالإذاعة التي أوكل إليها اختيار الأغاني المقبولة للتسجيل، ولأن عمل هذه اللجنة يفرض قبول أغان ورفض أخرى، فإن بعض الذين رفضت أعمالهم وجهوا سهام نقدهم للبيضاوي حول قرار الرفض، وهذا غير مقبول، ومثل هذا الجدال عقيم وينظر إلى الأشياء بدون استحضار معطيات موضوعية، كما قالوا إن البيضاوي كان يمنع البعض من البروز والشهرة، وادعوا أنه كان وراء إرسال عبد القادر الراشدي إلى طنجة ومحمد بنعبد السلام إلى مكناس، والحقيقة أن البيضاوي لم يكن يملك كل هذه السلطة التي تسمح له بالتحكم في مصير أعضاء الجوق الوطني. وأعتقد أن فكرة توزيع الكفاءات على محطات إذاعية مختلفة، مكنت من الاستفادة من طاقاتها بدل أن يجتمعوا في فضاء واحد. - تحدث البعض عن تكسيره للعود، بعدما أعجب الملك الراحل الحسن الثاني بتقاطيعه، وقال هذه العبارة: «سأكسر العود الذي أعجب الملك لكي لا ينصت إليه شخص آخر». فما مدى صحة هذه الرواية؟ > لا أريد الخوض في هذا الموضوع، البعض تحدث لي عن حقيقة تلك التقاسيم، وإعجاب الموسيقار محمد عبد الوهاب بها. - ماهي العلاقة التي كان نسجها البيضاوي مع العود؟ > لم يكن عوده آلة فقط، وإنما كان وسيلة للتعبير عن أحاسيسه الداخلية ويعبر به عن جمالية خاصة في الأداء. - ما هي علاقة البيضاوي ببعض الفنانين العرب؟ > كانت تجمعه بالعديد من الفنانين العرب علاقة مميزة، أغلبهم زارونا في البيت، من بينهم عبد الحليم حافظ وسعاد محمد، كما غنى له فنانون عرب العديد من الأغاني، كأغنية «من المصري للمغربي» التي غناها العندليب الأسمر، وأغنية «الفرحة الكبرى» لهدى سلطان، كما غنى له محرم فؤاد، ومن الذكريات التي أحتفظ بها عن أم كلثوم أنها زارتنا في المنزل رفقة فرقتها بالتزامن مع الاحتفال بعيد الأضحى، واضطرت للاتجاه للمطبخ للسلام على زوجة البيضاوي التي كانت تحضر «بولفاف»، وفي السياق ذاته ترك البيضاوي عودا أهداه له القصبجي سنة 1965، كما احتفظ برسالة من رياض السنباطي تتحدث عن مناقب البيضاوي.