ولد محمد المزكلدي بمدينة فاس سنة 1932، تابع دراسته في كتاب الحي، ثم انتقل بعد ذلك إلى المدرسة، ليلتحق بجامعة القرويين التي تخرج منها سنة 1948، غير أنه ارتبط بالموسيقى والطرب والغناء، منذ صغرهوذلك عن طريق بعض أصهاره، الذين جمعهم مع أسرته منزل واحد، حيث كانت تلك العائلة مولعة بالفن والموسيقى بصفة عامة. كانت الأسرة تمتلك جهاز تشغيل أسطوانات تستعمله لسماع روائع فناني الشرق، وبالأخص من مصر التي كانت تجمع عمالقة الغناء أمثال، محمد عبد الوهاب، وأم كلثوم، وفريد الأطرش، وأسمهان، عبد الحليم حافظ، وزكريا أحمد، وغيرهم من رواد الطرب العربي آنذاك. في هذا الجو الفني، نشأ محمد المزكلدي متأثرا، بهؤلاء العباقرة وبأغانيهم، التي كان يسمعها صباح مساء وعمره لم يتجاوز العشر سنوات، حيث تسرب إلى أعماقه حب الموسيقى والطرب والغناء، رغم رغبة والديه في متابعته لدراسته. في أواخر الأربعينيات تعرف المزكلدي على الفنان الراحل الرائد محمد فويتح، والفنان الرقيق الراحل عبد الرحيم السقاط، والموسيقار الموهوب الراحل أحمد الشجعي، وبدأت الاتصالات الفنية بين هؤلاء الأقطاب. ولما لمس محمد فويتح حب هذه المجموعة للموسيقى ومدى رغبتها واجتهادها، التمس منها الالتحاق بجوق الشعاع الفني، الذي كان يرأسه بنفسه آنذاك. وفي أواخر الأربعينيات، سافر فويتح إلى باريس وترك الثلاثة يمارسون نشاطهم الموسيقي مع جوق الشعاع الفني، بجد واجتهاد وإخلاص، وكانت هناك مراسلات فنية بين الجوق وإذاعة راديو المغرب بالرباط، وفي هذا الوقت بالذات، كان المسؤولون في الإذاعة يؤسسون جوقا عصريا يضم بين صفوفه أجود العازفين والمطربين من كافة أنحاء المغرب، فالتحق الثلاثي الفني بهذا الجوق، الذي كان يرأسه الراحل أحمد البيضاوي، الذي جعل هذا الجوق يتدرب على عزف ألحانه وأغانيه، التي كان يؤديها المزكلدي، نظرا لحسن أدائه والحفظ السريع والنطق السليم، الذي كان يتميز به، وكذا أذنه الموسيقية السليمة وحفاظه على الإيقاع. وبعد مدة، أحس الفنان محمد المزكلدي بالعنصرية المفروضة على الموظفين، سواء في المعاملة أو الأجور، ما جعله ينزعج ويرفض هذا التصرف اللاإنساني، فلاحظ المسؤولون منه ذلك فبدأوا يراقبون حركاته وسكناته، إلى أن اندلعت حوادث ومظاهرات تونس 1952، التي راح ضحيتها الزعيم النقابي فرحات حشاد، وفي خضم هذه الأحداث، وجه إلى المزكلدي من الإدارة أول إنذار وخصم من راتبه قدرا من المال أزعجه. في 20 غشت 1953، نفي جلالة الملك محمد الخامس، وأسرته الشريفة من طرف فرنسا إلى مدغشقر، وكان اليوم نفسه الذي طرد فيه المزكلدي من الإذاعة، بأمر من الإقامة العامة، والجو عصيب والأعصاب مشدودة في كل أنحاء البلاد، فقرر الذهاب إلى مصر لغايات كثيرة على رأسها الموسيقى، فجرى ذلك بشكل يصعب ذكره في هذا الحيز، لكنه عندما وصل إلى القاهرة استطاع أن يستثمر مجهوداته وأعماله في مجال الطرب والغناء، وعقد اتفاقا مع إذاعة صوت العرب لتسجيل وإذاعة عدد من الأغاني المغربية، الناجحة التي أثرت "ريبرتوار" الأغنية الخزانة الوطنية والعربية، نذكر منها "فين غاب القمر"، و"ظلمني الحب"، و"أنا محتار"، و"يا زينة العرايس"، و"علاش قطعوك يالوردة"، و"خمسة وخميس"، و"قنديلي يا قنديلي". سطع نجم المزكلدي أكثر في حفلات أضواء المدينة، غير أنه لم يقتصر في أعماله على مصر وإنما سافر إلى كل من سوريا ولبنان، وسجل هناك العديد من الأغاني المغربية، التي نالت النجاح والإعجاب، نظرا لإيقاعاتها المغربية الفريدة، وعند عودته من هذه الجولة، أصبح يدعى سفير الأغنية المغربية بالمشرق العربي، وللحقيقة والتاريخ يقول إن نصوص هذه الأغاني كانت من كلمات الأساتذة أحمد الطيب لعلج، وعبد السلام البقالي، والإذاعي خالد مشبال، لكن معظمها يرجع الفضل فيه للشاعر والزجال المتميز حسن المفتي. بعد هذه المرحلة الموفقة التي تعرف فيها على عمالقة الأغنية العربية وتعلم منها الكثير، عاد إلى أرض الوطن سنة 1960، ليجد المغرب يعيش حرا مستقلا معتزا برايته وملكه، كما وجد الجو ملائما، ما جعله يتعبأ ويتعاون مع أصدقائه الفنانين لبناء صرح الأغنية المغربية وإخراجها من التبعية المشرقية، وبفضل هذه المجهودات، التي بذلها هؤلاء، استطاعت الأغنية المغربية أن تبرز شخصيتها المتميزة بإيقاعاتها وألوانها الغنية والمتعددة وتعيش عصرا ذهبيا، منحها هويتها الخاصة.