أصعب شيء في «علم الأبراج السياسية» هو قراءة الطالع الحزبي في المغرب، لأنه خارج تأثير حركة الكواكب، ولأنه أيضا مليء بالمفاجآت غير المتوقعة.. لذلك لا يمكن الحديث - ولو بحد أدنى من الجزم- عن «المستقبل».. مما يدفع إلى الاكتفاء بالتمعن في الماضي وتأمل الحاضر. أما المستقبل فعلمه عند علام الغيوب. لعله أسعد الناس بما أنه ختم –نظريا طبعا- مساره الطويل باستعادة موقعه على رأس الحركة التي «سرقت» منه في لحظة من اللحظات لحسابات ترجع كالعادة إلى شغبه الذي جعله يجمع المتناقضات..فهو مخزني حتى النخاع لكنه أيضا صاحب نظرية «موكا والطير الحر» التي جعلته بين الفينة والأخرى يرفع عقيرته بالاحتجاج..وهو الذي لم يجد رفيق دربه الدكتور الخطيب أفضل من كلمة «الزايغ» لوصفه بها!! الحركة خلقت لتكون في الحكومة، ولتُكثر سواد الأغلبية دون «ضجيج»، فهي كانت أشبه بتجمع لأعيان البادية منها بحزب سياسي يملك مشروعاً محدداً، ولذلك لم تسع إلى استقطاب نخب، بدليل أن عدد الأطر الذين كانوا حاضرين عند التأسيس لم يتعد اثنين أو ثلاثة، ولهذا بنيت الحركة بمنطق القبيلة حيث «أمغار» صاحب الكلمة الفصل في الصغيرة قبل الكبيرة، ولذلك أيضاً كانت التقنية المعتمدة في انتخاب هياكل الحزب مبنية على تفويض أحرضان للتصرف، فكان الأمر مفتوحا، بحيث يمكن الدخول والخروج من هذه الهياكل اعتمادا على الرضى الآني ل«أمغار»، وعلى المسافة المتحركة قرباً أو بعداً منه.. هذا المنطق لازال حاضراً في فكر أحرضان الذي كان –والعهدة على الراوي طبعاً- أحد أسباب دفع حركته الموحدة خارج أحضان الحكومة الحالية هو إصراره على توزير أسماء معينة، وماذا يمكن أن ننتظر من رجل كان يخاطب جماهير الحزب في اللحظات المفصلية والحاسمة بسؤال من قبيل :واش كاتيقو في؟ فترد عليه القاعة بالتصفيق والزغاريد.. فيطلب تزكية اللائحة الموجودة في جيبه بالإجماع سواء تعلق الأمر بالمكتب السياسي أو بأية هيئة أخرى.. فتتكرر الهتافات والتصفيقات والزغاريد..وقضي الأمر وفق آلية «ديمقراطية» فريدة من نوعها..علماً أنه لا شيء ينظم هذا التصويت لأن الصفة التنظيمية غير مطلوبة أصلاً، فالاستدعاء يتم على طريقة الدعوة للمواسم والأعراس.. ومرحبا بك وبمن معك، فيجد أعضاء اللجنة المركزية أو المجلس الوطني أنفسهم في المحصلة أقلية وسط طوفان من «الموافقين».. ومن يستطيع أن يقنع الحاضرين باحترام القانون الداخلي حينئذ.. إنه منطق شيخ القبيلة الذي يتصرف كأب لا يقبل النقاش، بل يعتبر مجرد «المراجعة» نوعاً من العقوق الذي قد يؤدي إلى الطرد من «الخيمة»..وربما من القبيلة كلها.. ولذلك، فكل الذين خرجوا من تحت جلباب أحرضان في الانشقاقات الكبرى رفعوا مبرر «الأبوية» المبالغ فيها، بل وضعوا وصف «الديمقراطية» في «بلاكات» أحزابهم الوليدة بدءاً من حركة الدكتور الخطيب، وانتهاء باتحاد بوعزة يكن مروراً بحركة عرشان..كمؤشر على أن خيمة أمغار تفتقر تحديدا إلى هذا الشرط.. ومع كل ذلك ظلت الحركة رقما لا يستهان به لأنها كانت تمثل فعلاً قطاعات واسعة من أعيان البادية والمناطق الأمازيغية، وهي المناطق التي كان اليسار لا يتوفر فيها على موطئ قدم..وكانت بمثابة خزان احتياطي مضمون.. يمكن استعماله عند الحاجة إلى تأكيد الشرعية.. ورغم كل التقلبات التي عرفتها الأجواء السياسية في العقد الأخير، إلا أن الحركة بقيت وفية لطبيعتها، بل عاد جلباب أحرضان ليتسع لكثير ممن خرجوا من تحته أو انشقوا عنه أو انقلبوا عليه في فترات سابقة، فالسلطة لم تعد في حاجة ماسة إلى الاحتياطي المشار إليه.. واليسار الذي كان يشكل «تهديدا» في وقت من الأوقات، فضل الارتماء في حضن السلطة والجلوس إلى مائدتها التي أصبح فيها متسع للجميع..والإسلاميون إما انخرطوا في اللعبة أو راهنوا على الأحلام لتغيير وضع قائم في الواقع وليس في المنام.. ولهذا فوجئ الحركيون قبل غيرهم بمسارعة «المخزن» إلى «زدح الباب» في وجه السنبلة بسرعة قياسية بعد أن سعى أحرضان لضمان كرسي للعائلة في الحكومة العباسية. الحركة لم تقرأ الواقع لأنها لم تعتد على قراءته، ولأنها تربت على اتباع الإشارات الضوئية التي تتلقاها من خلف الستار.. نعم تميزت عن الأحزاب الإدارية الأخرى بكون أمغار صعب المراس ومتعدد المفاجآت، لكنها في النهاية تبقى من نفس العائلة.. والحزب الذي قدمته السلطة ذات يوم على طبق من ذهب لمحند العنصر، هو نفسه الذي بدأ هذه الأيام يتسرب منتخبوه من بين أصابعه لمجرد أنهم ظنوا أن رياح المخزن أصبحت معاكسة لما تشتهيه سفينة الحركة، وحتى الهجرة الجديدة لم تكن نحو الحركات الأخرى ولا نحو أحزاب شهيتها مفتوحة على قبول الرحل، بل نحو الحزب الجديد، على اعتبار أنه «تراكتور» المخزن الذي سيحرث الساحة السياسية.. والفلاح بطبيعته يعرف أن الحرث يسبق الحصاد وأن التراكتور أسبق من السنبلة، أضف إلى ذلك أن الجيل الجديد من الحركيين لم يعد له نفس التقدير لأحرضان كما كان للأجيال السابقة، وبما أننا في خيمة أو قبيلة، فعندما يشيخ «أمغار» ويعجز عن متابعة أحوال العشيرة، تتعدد الآراء وتكثر الرؤوس..ويعجب كل ذي رأي برأيه.. الحركة من الأحزاب التي يتوقف وجودها على حضور قوي ودائم لشيخ «القبيلة»، أو لقبضة حديدية لأم الوزارات..وبما أن الشرطين غابا، بعدما أصبح «أمغار» عبئاً على الحركة، وارتخت قبضة الداخلية، ولم يعد النظام أصلا في حاجة إلى السنبلة كورقة احتياطية لترجيح الكفة في مواجهة النخب المدينية المحسوبة بشكل أو بآخر على قوى المعارضة، فقد الحزب الكثير من أسهمه، بل حتى مبررات وجوده.. التحدي الحقيقي لهذا الحزب يكمن في أنه غير قادر على استقطاب سياسيين محترفين، لأنه بني منذ البداية على ضرورة ترك مهمة التفكير والتدبير ل«أمغار» وحده لا شريك له، وكل تطاول على هذا «الاختصاص» معناه الطرد من جنة الحركة.. ولهذا كان أكبر المتضررين من هدير التراكتور، فالحركيون تربوا على السير في ظل المخزن، ولا تهمهم كثيرا الأسماء ولا العناوين، فبمجرد ما سمعوا أن الحزب الجديد أقرب إلى «راس العين» تهافتوا عليه، ونسوا كل انحناءاتهم بين يدي أمغار وعهودهم وأيمانهم على الولاء من المهد إلى اللحد.. الدليل على أن هذا الحزب يسير في زمن غير الزمن الطريقة التي تم بها انتخاب شبيبته العام الماضي، حيث اقتضت «الديمقراطية» الداخلية اللجوء إلى الإرث السياسي للآباء المؤسسين فتمت مطالبة أعيان الحزب في الأقاليم باختيار شباب «أكفاء» لحضور المؤتمر التأسيسي..ولنا أن نتخيل مسطرة الاختيار..ونتائج هذا الاختيار.. في الطالع السياسي للحركة، مازالت أمامها أيام طويلة لكنها لن تكون مجيدة إلا إذا عادت إلى الحكومة، وها هي قد عادت ففي لاوعي «مناضليها» المكان الوحيد للسنبلة هو حضن «المخزن»، وإلا فستضطر لخوض معركة حياة أو موت خاصة في البوادي معقلها الأساسي، وأمام منافس يملك نفس أساليبها ونفس أسلحتها القديمة وهي «المخزنة».. فالتراكتور -كما كشفت الانتخابات الجماعية الأخيرة- لا يمكنه أن يتمدد إلا ضمن المجال الحيوي للحركة..أي البادية، مقابل انحسار ملحوظ للسنبلة في المدن بعد أن كانت مفاجآتها في الاستحقاقات السابقة قد مكنتها من رفع أعلامها فوق الرباط وسلا.. وبما أنها خسرت المدن، وأصبحت محاصرة في البوادي، فإن الأمر يتطلب أكثر من نظرية «موكا والطير الحر» التي ظلت لعقود بمثابة الخط الإيديولوجي للحزب..