أصعب شيء في «علم الأبراج السياسية» هو قراءة الطالع الحزبي في المغرب، لأنه خارج تأثير حركة الكواكب، ولأنه أيضا مليء بالمفاجآت غير المتوقعة.. لذلك لا يمكن الحديث - ولو بحد أدنى من الجزم- عن «المستقبل».. مما يدفع إلى الاكتفاء بالتمعن في الماضي وتأمل الحاضر. أما المستقبل فعلمه عند علام الغيوب. دخول الاتحاد الاشتراكي إلى الحكومة من بوابة التناوب التوافقي.. اعتبره البعض واقعية سياسية، فيما اعتبره آخرون مجازفة غير محسوبة العواقب قد تؤدي إلى التضحية بالرصيد التاريخي كله.. وبدماء «الشهداء» الذين قدموا أرواحهم قرباناً لما هو أكبر.. ولأن عبد الرحمان اليوسفي –ومحيطه القريب- لم يحسن قراءة حركة النجوم والكواكب، ودفعه ضغط الرفاق الذين تعبوا من لعب دور المعارضة، ومن مشاهدة غيرهم يغرق في التمتع بنعيم «الحكم»، قرر دون «استخارة» أن يضع كل البيض الاتحادي في سلة التناوب.. ولم يجد الرفاق مانعاً في إزالة بعض «الأشواك» التي اعترضت طريقهم رغم أن بعضها كان سلاح الدمار الشامل الذي لوحوا به غير ما مرة في وجه «المخزن»..فسقط الأموي والساسي.. وغيرهما في منتصف الطريق.. فضل الاتحاديون إذن الطريق قبل الرفيق، واكتشف الناس أن وزراء الوردة لا يختلفون في شيء عن سابقيهم، فقد تصرفوا على طريقة الباشوات والآغوات وأولاد الذوات، فانمحت من المخيلة الجماعية صورة المناضل اليساري الملتصق بالجماهير الشعبية..وتوالت صور التبرجز من أطنان «الشكلاط» على موائد الإفطار، إلى تحويل المكاتب والممرات إلى حدائق ذات بهجة أنست الرباطيين «مارشي النوار» رحمه الله.. وأصبح الذين كان العرق -ورائحته النفاذة- جزءا من أدوات اشتغالهم اليومية، يضعون أصابعهم على أنوفهم حين يضطرون -لأسباب دعائية- إلى الوقوف وسط المواطنين ..الكادحين.. أو تفرض عليهم الضرورات الانتخابية مجالسة القوات الشعبية!! زواج الاتحاد بالسلطة لم يكن متوازنا.. فقد طاردها منذ نهاية الخمسينيات، وحاول الاستئثار بها وحده.. لكنها كانت مثل ملكة النحل هي من تختار شريكها.. وتتخلص منه مباشرة بعيد نيل وطرها منه.. وبعد عقود من «الغزل» الحارق.. وحتى الجنون أحياناً، فتحت أحضانها للعشيق القديم.. بشروطها هي طبعاً، رغم أنها كانت قد تحولت إلى عجوز شمطاء شوهاء انحفرت على وجهها أخاديد الماضي بأحزانه ورصاصه.. كما أن العريس هو الآخر كان قد خضع لحكم السن..وبدأ يفقد فحولته.. عين العريس لم تكن على الحب القديم ولا على «شباب القلب» بل على ما في خزائن العروس من مخلفات الزيجات السابقة..فقد آن الأوان لركن اللافتات والشعارات والكلام الكبير في «الكراج».. والجلوس إلى المائدة.. حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب كارل ماركس!! أولاد العروس من مغامراتها السابقة، لم يمهلوا العريس الجديد حتى سبعة أيام «ديال الباكور» فبدأوا في وضع الحراقية في بلغته كلما واتتهم الفرصة لذلك.. بينما لم يجد في جرابه القديم سوى «القاموس».. فكانت ولادة مفهوم «جيوب مقاومة التغيير».. ومع توالي الأيام..اكتشف الاتحاديون أن السلطة رغم تقدمها في العمر لم تتحول إلى نعجة، وأنها ما زالت ذئبة جمعت بين شراسة الكلاب ودهاء الثعالب.. عبد الرحمان اليوسفي القادم من زمن غير الزمن، وجد نفسه في موقع من يمسك البقرة من قرونها ليحلبها أعداؤه، وحتى بعض من ركبوا سفينة التناوب حاملين الوردة في أيديهم مبشرين بمروج الربيع القادم بعد سنوات من القحط السياسي والاقتصادي.. ولم يدرك يومها أن كل الأيدي تحفر حوله الخنادق.. إلى أن خرج من الباب الخلفي حتى دون أن يسمع كلمة «شكراً»، بل «زدح» رفاقه الباب خلفه بعد أن نعوه سياسياً في وثيقة حملت عنوان «احترام المنهجية الديمقراطية».. وجرت مياه كثيرة تحت الجسور الاتحادية، إلى أن أفاق الرفاق على صفعة شتنبر 2007 التي كانت من صنع أيديهم، وكانت «السلطة» مجرد شاهد من شهود ذبول الوردة، التي لم يمهلها «الشركي» السياسي حتى ولايتين تشريعيتين، بعدما كان الرفاق قد وطنوا النفس على الإقامة الدائمة في الحضن الدافئ.. مهما كان الثمن.. وأياً كانت الشروط.. ما جمعه الاتحاديون طيلة سنوات المعارضة، تبخر في لحظات بعدما انتقلت عدوى «الإدارية» إلى الحزب «العنيد»، فوقفت طوابير طويلة متزاحمة على الحقائب المعدودة التي آلت إليه في الحكومة العباسية، وبدأ النهش ووصلت الأمور حد الإنذار بانفجار وشيك، نُزع فتيله في آخر لحظة بانتخاب عبد الواحد الراضي - الراضي دائما وأبداً بالقسمة والنصيب-.. فهدأت الزوابع -ولو إلى حين-، وتولى أقدم برلماني مهمة الإطفاء وجمع أنقاض بيت فجره الورثة بسبب الصراع على تركة هزيلة.. وبين خروج اليوسفي ودخول الراضي احترقت أصابع اليازغي.. الذي كان بارعاً حين كان في الظل يحرك الخيوط دون أن يترك آثاراً تدل عليه، بل نجح في إخراج الأموي من ثقب الباب خلال المؤتمر المشهود.. مشكلة الاتحاد اليوم أن وردته أصبحت بلا لون ولا رائحة ومن فصيلة الورود الصناعية..واللون الرمادي في السياسة لا ينفع صاحبه، لأنه يعني الضبابية وغياب الرؤية .. ولذلك يقف الاتحاديون اليوم في منتصف الطريق ..رجل في الحكومة وأخرى خارجها..أو على الأصح: الوزراء مع الحكومة والنواب مع المعارضة وصحافة الحزب في منزلة بين المنزلتين.. فالحزب فقد البوصلة منذ أن اعتادت معدته على «الشهيوات» المخزنية.. ولم يدر أن السم في الدسم على رأي البوصيري.. والبطن التي ألفت وصفات المطبخ الفرنسي والصيني.. والشوكولا السويسرية كيف يمكن أن تتعامل مع «طبخات» القوات الشعبية؟ وهنا أيضا كان «القاموس» جاهزاً.. فالحزب ينبغي أن يعامل انطلاقاً من وزنه «التاريخي» وليس بناء على نتائج صناديق الاقتراع!! وهي تخريجة غير مسبوقة ل«الديمقراطية».. لقد احترقت الوردة الاتحادية عندما اعتقدت أن «المخزن» بلغ أرذل العمر، وأنه بالإمكان الإجهاز عليه من الداخل، حيث فهم الاتحاديون أن دعوتهم للمشاركة في حكومة «التناوب التوافقي» من طرف العاهل الراحل دليل على أن انتقال العرش لن ينجح بدونهم، خاصة وأن دراسات ونبوءات فرنسية كانت تتوقع نهاية قرن سيئة بالنسبة للمغرب، ربما تخيل الاتحاديون أن «الأسد العجوز» يمكن أن يتنازل لهم عن جزء من عرينه، قبل أن يستفيقوا على الحقيقة المرة، وهي أن الخيوط الفعلية لن تكون في متناولهم، وأن اليوسفي تحديداً كان دوره المساهمة في نجاح المغرب في امتحان حقوق الإنسان، بعد أن قبل أحيانا لعب دور «محامي الشيطان».. خاصة عندما كان يفاجأ مثل «أيها المواطنين» بقرارات حساسة عبر قصاصات الماب أو خلال النشرات الإخبارية.. وما قضية «تورة» إلا نموذج بسيط.. مستقبل الوردة في علم الغيب طبعاً، ولكن الأكيد، أن «السلطة» تضحك في السر، لأنها حققت انتقامها من الاتحاد بعد أن صار كهلاً، ولم يعد مجرد «مراهق» تحركه الطموحات وأحلام اليقظة.. وكثيرون اليوم في الكواليس فرحون بما آل إليه هذا الحزب الذي أراد كل شيء.. فقبل في النهاية بلا شيء..