(1) في معرض تعليقه على قرار السلطات العمومية القاضي بمنع مجلتي «تيل كيل» و«نيشان الأسبوعيتين، قال أحمد بنشمسي، في أحد تصريحاته لقناة 24 ساعة الفرنسية، ما يلي: «أستغرب هذا المنع... إننا لم نخالف أي قانون. قيل لنا إن المنع كان بسبب استطاع الرأي حول تجربة حكم الملك محمد السادس بمناسبة مرور عشر سنوات، والحال أن نتائج استطلاع الرأي كانت إيجابية، وإيجابية جدا تجاه تجربة حكم الملك، بنسبة 91 في المائة». هذا الكلام، الصادر عن شخص يقدم نفسه باعتباره أحد رواد ما يصطلح عليه ببلادنا ب«الصحافة المستقلة»، ينم عن جهل فظيع وغير مبرر بمفهوم استطلاع الرأي وتعقيداته وإشكالاته، وخصوصا بالرهانات التي ينطوي عليها. لن أسرد مجموع الوقائع التاريخية والنقاشات الحامية التي أثيرت حول «استطلاعات الرأي» ببلادنا، سواء تلك التي أشرفت عليها جهات أجنبية (مراكز لاستطلاع الرأي أو هيئات مدنية) أو هيئات مستقلة (منابر صحافية وغيرها) أو حتى جهات رسمية في الدولة (وزارة الداخلية)، والتي انتهت في الأخير إلى الحديث عن مشروع قانون مقترح من طرف الأمانة العامة للحكومة، يروم تنظيم وسيلة التقصي هذه، الهادفة إلى رصد آراء المواطنين المغاربة حول معطى أو واقعة معينة. صحيح أن كل المهتمين بموضوع استطلاع الرأي عبروا، منذئذ، عن خشيتهم من التهديدات التي ينطوي عليها مشروع القانون الذي لوحت به الحكومة، خاصة عندما نص على عدة مقتضيات تتعارض مع حرية التعبير وتقيد الحق في إنجاز استطلاع الرأي أو في نشر نتائجه، باسم الدفاع عن المقدسات؛ وصحيح كذلك أن أهم المقترحات التي أثارت نقاشات مستفيضة في هذا المشروع: ما يتعلق بإحداث لجنة أخلاقية لاستطلاعات الرأي، ومنح الدولة، في شخص وزارة الداخلية، حق إنجاز استطلاعات الرأي بدون تقييد، ووضع شروط مجحفة لباقي الهيئات المدنية المستقلة التي تريد ممارسة هذا الحق، من قبيل التنصيص على ضرورة أن يكون الاستطلاع ذا «منفعة مشروعة»، وألا يتمحور حول بعض المواضيع التي تدخل في دائرة المحرمات، وعلى رأسها: شخص الملك والمؤسسة الملكية عموما، الوحدة الترابية والدين الإسلامي؛ إلا أن ما يلاحظ على هذا النوع من القراءات هو أنه يقف عند مستوى الظاهر فقط، في تناوله لمسألة استطلاع الرأي، خاصة من خلال التأكيد على البعد الحقوقي من المسألة فقط، وكأن التضييق على «صناعة» الرأي العام هو تضييق على حرية التعبير والحق في إنجاز استطلاع الرأي... لكنه (أي هذا النوع من القراءات) لا يتساءل عمن ينتج استطلاعات الرأي؟ ما موقعه الاجتماعي؟ وكيف ينتج استطلاع الرأي؟ وفي ظل أية شروط؟ ولماذا ينتج استطلاع الرأي؟ ووفق أي غايات ورهانات سياسية واجتماعية؟... عموما، يتم الصمت عن هذه الأسئلة الجوهرية، كما لو أن هناك تسليما بعلمية استطلاع الرأي وبديمقراطيته وشفافيته وفعاليته. نحن هنا أمام نوع من الوثوقية، الشبيهة بالوثوقية المتمسحة بالدين، والتي تصل حد اعتبار استطلاع الرأي خيارا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. هذا المقال يحاول استعراض بعض التصورات النقدية تجاه «استطلاع الرأي»، لبعض المتخصصين في العلوم الاجتماعية، خاصة تصور كل من بيير بورديو وكلود ليفي ستراوس، كما يحاول إبراز لماذا لا يمكن للدولة أن تسمح بإنجاز استطلاع رأي حول المؤسسة الملكية، وأساسا لماذا يبدو هذا الموقف الرسمي أكثر «علمية» و«مصداقية» من مواقف من يدافع عن «الحق في إنجاز استطلاع الرأي» ومن يطابق بين هذا الحق وبين حرية التعبير، في نوع من الوثوقية السعيدة. (2) إن كل استطلاع رأي يقوم ضمنيا- كما يوضح بورديو- على ثلاث مسلمات هي: افتراض أن كل إنسان يمكن أن يكون له رأي أو أن إنتاج رأي هو في متناول جميع الناس؛ افتراض أن كل الآراء متساوية؛ افتراض أن طرح نفس السؤال على جميع الناس يعني أن هناك توافقا حول المسائل المطروحة أو، بتعبير آخر، أن هناك اتفاقا حول الأسئلة التي تستحق أن تطرح. وتترتب عن هذه المسلمات الثلاث سلسلة من الاختلالات التي تتم ملاحظتها حتى في الحالات التي تراعى فيها كل شروط الصرامة المنهجية أثناء جمع وتحليل المعطيات، وذلك لاعتبارات متعددة أهمها: أنه لا يمكن التسليم بأن بناء رأي وموقف هو في متناول جميع الناس، خاصة في مجتمع ما يزال يراوح مكانه على أعتاب الحداثة، فسيادة التقليد في كل مناحي الحياة الاجتماعية تعني سيادة الكيانات الاجتماعية الكبرى (القبلية، الجماعة، الزاوية،...) مقابل انحسار مساحات الذاتية والفردانية. كما أنه ليس صحيحا أن كل الآراء متساوية، ربما يكون ذلك صحيحا في الحالة التي تسود فيها نمطية مطلقة وقاتلة داخل المجتمع، تنتفي معها كل إمكانية للتمايز والاختلاف بين الأفراد. والحال أن المجتمع البشري يستمر ويتطور بفضل قدرة أفراده على مقاومة كل عمليات ومشاريع التنميط، التي تهدد هوياتهم الفردية واختلافهم واستقلاليتهم... وأخيرا، ليس هناك أي توافق حول المسائل المطروحة، فمثلا، ما الذي يحدد أن سؤال المغاربة حول ملكهم وتجربة عشر سنوات من حكمه يفرض نفسه كمشكل بالنسبة إلى المغاربة؟ لا شيء في ما يجري في مجتمعنا (خطابات، سلوكات، وقائع،..) يؤشر على أن هناك من يطرح الملك والملكية موضع تساؤل. أليست هناك موضوعات أخرى ربما من المفيد سؤال المغاربة حولها، وتبدو أكثر ملحاحية بالنسبة إليهم؟ فقد يقول قائل، مثلا، إن ما يستحق الرصد، ربما، هو موقف المغاربة من وضع اللغة الفرنسية في المجتمع عموما، ومن الظواهر الشاذة التي يجري التطبيع معها في بعض المنابر الصحافية، مثل انتشار المخدرات والخمر والدعارة والانحلال الأخلاقي،...إلخ. المؤكد هو أن أي اختيار موضوع دون آخر، ليس بريئا، فهو ينطوي على رهانات ومصالح وعلاقات قوى، من السذاجة أن يستغفل طرف ما في المجتمع باقي الأطراف الأخرى، ويفرض على الجميع، ما يعتبره هو موضوعا مهما وملحا بالنسبة إلى المغاربة. هذه الاعتبارات وغيرها، دفعت بباحث مثل بيير بورديو إلى حد نفي وجود شيء اسمه الرأي العام، ما دامت المسلمات التي يتأسس عليها تبدو متهافتة. (3) غالبا ما توجه إلى استطلاعات الرأي مؤاخذات تقنية، كما هو الحال عندنا في المغرب، على هامش صدور مشروع قانون منظم لها، أو على إثر السجالات التي تمخضت عن منع «نيشان» و»تيل كيل» و«لوموند»، لنشرها نتائج استطلاع رأي حول الملك والملكية بالمغرب. فقد يؤاخذ، مثلا، مهندسو استطلاع الرأي على طرح أسئلة مراوغة أو بالأحرى على توجيه للأسئلة بشكل يسمح بحدس الجواب مباشرة، من خلال طريقة طرح السؤال، حيث يتم بذلك خرق المبدأ الأساسي لبناء أسئلة استطلاع الرأي، والذي يقتضي «ترك فرصة للوجود» لكل الإجابات الممكنة، حيث يتم غالبا حذف أحد الاختيارات الممكنة في الأسئلة المطروحة أو في الإجابات المقترحة، أو يتم أيضا اقتراح نفس الاختيار عدة مرات، بصياغات مختلفة. لكن لماما ما يتم الانتباه إلى ما يسميه بورديو الشروط الاجتماعية لهذه التحريفات أو الاختلالات التي تحيل على الشروط التي يشتغل فيها من ينتج استطلاعات الرأي. فهذا النوع من الربط بين صناعة استطلاع الرأي والشروط الاجتماعية التي ينتج في إطارها يكشف حقيقة كون الإشكالات التي تصنعها الهيئات المنتجة لاستطلاعات الرأي تستجيب لطلب خاص، له علاقة بالظرفية السائدة ويهيمن عليه الانشغال بالطلب الاجتماعي الملح المباشر، إذ لا يمكن للسؤال أن يطرح إلا إذا صار مشكلا سياسيا؛ وهذا هو الذي يجعل الإشكالات، التي تحظى باهتمام مهندسي استطلاع الرأي، تعبر في الغالب عن مصالح سياسية، تؤثر بقوة في دلالات الإجابات، بل في الدلالة التي تعطى لنشر نتائج الاستطلاع. من هنا، يختلف عمل مثل هذه الهيئات المنتجة لاستطلاعات الرأي عن عمل مراكز البحث العلمي التي تخلق إشكالاتها بعيدا عن الطلب الاجتماعي الملح والمباشر. ثم لا ينبغي أن ننسى أن استطلاع الرأي هو في الوقت الحالي وسيلة للفعل السياسي، لأن الفعل السياسي لا ينحصر فقط في ما يقوم به الفاعلون السياسيون داخل الحقل السياسي، بل يمتد كذلك ليشمل كل ما يقوم به الفاعلون المرتبطون، بشكل أو بآخر، بالحقل السياسي، والذين يحدثون فيه آثارا ما؛ وبهذا المعنى، فمهما ادعى مهنيو استطلاعات الرأي حيادهم واستقلاليتهم عن الحقل السياسي، فهم، في الواقع، فاعلون سياسيون؛ وتتمثل الوظيفة الأساسية لفعلهم في فرض وهم أن هناك رأيا عاما هو حصيلة مجموعة الآراء الفردية. وعبر ذلك، فهم يساهمون في صناعة الرأي العام. وكما لاحظ كلود ليفي ستراوس، أحد أبرز الباحثين في العلوم الاجتماعية، على صعيد المجتمعات الحديثة، نحن نعلم أن استطلاع الرأي العام يعدل اتجاه هذا الرأي بحكم استعماله بالذات، وذلك إذ يوقظ بين السكان عامل التفكر في الذات، والذي لم يكن موجودا من قبل... (4) ولعل التأثير الأساسي لاستطلاع الرأي يتمثل في شرعنة سياسة ما وتعزيز علاقات القوى التي تؤسسها أو تجعلها ممكنة. فالأرقام التي يحبل بها استطلاع الرأي هي إما تضفي شرعية على الواقع، في حالة إيجابيتها، أو أنها تنزع عنه هذه الشرعية، في حالة سلبيتها. وفي كل الحالات، تقدم نتائج استطلاع الرأي ذاتها وكأنها تعبير عن رأي الأغلبية، وكأن لسان حال من «ينتجها» يقول: «الرأي العام معنا». ويحاول السياسيون اليوم، في المجتمعات الغربية التي شهدت فصلا للدين عن السياسة، تبرير سياساتهم وقراراتهم عن طريق استبدال عبارة «الله معنا» القرسطوية، بعبارة «الرأي العام معنا» ذات النفحة الحديثة، والتي لها نفس المفعول، القوة والسحر، بحكم أنها تقدم نفسها ك«ترجمة» رقمية لاتجاهات الرأي السائدة داخل المجتمع. لكن الواقع مغاير في مجتمعاتنا التي ما يزال السياسي فيها يرتكز على الديني، ويتداخل معه. فالمؤكد، بالنسبة إلى الحالة المغربية، أن المؤسسة الملكية، الحريصة على احتكار الشرعية الدينية، لن تسمح بشرعية أخرى منافسة إلا في الحدود التي لا تشكل تهديدا للشرعية الدينية الأساس، ولما يستند إليها من مؤسسات وقوانين وخطابات. وبكلمة واحدة، المؤسسة الملكية لن تسمح بأن تتحول إلى موضوع لاستطلاع رأي، حتى ولو كان إيجابيا، لأن في ذلك تقويضا لمرتكزاتها المتعالية، وبالتالي استهدافا لقدسيتها. فالمؤسسة الملكية لن تسمح بأن تكون موضوع استطلاع رأي، ليس فقط لأن نتائجه، مثلما كانت إيجابية اليوم، يمكن أن تصير سلبية غدا، وفقا ل«قواعد اللعبة» المنظمة لاستطلاع الرأي. ولكن الأهم هو أن الملكية التي تستمد وجودها واستمراريتها من الدين، ولسان حالها يقول: «الله معنا»، لن تسمح بأن تخضع لمرجعية استطلاع الرأي الدنيوية، حتى ولو استهدفت هذه المرجعية منحها الشرعية، أي حتى ولو كان لسان حالها يقول: «الرأي العام معنا».