أشجار الأرز المزينة احتفالا بأعياد ميلاد المسيح عليه السلام منتشرة أينما ولّى الزائر وجهه ببيروت، عاصمة لبنان. بالمطاعم يصعب إيجاد طاولات شاغرة لأن الأسر تفضل تناول وجبة العشاء خارج بيوتها وتعودت على الاحتفال والسهر، تقريبا كل ليلة، ومقاهي بيروت تبدو للزائر، الذي يكتشف المدينة للمرة الأولى، وكأنها تحولت إلى بيوت صغيرة تقصدها فئات مختلفة من الأعمار لقضاء الوقت، أما الكورنيش، أو «الروشة» كما يسميها اللبنانيون، فهو فضاء مفتوح في وجه الجميع يؤثثه أطفال صغار يحملون ورودا حمراء اللون، وهم يتربصون بالعشاق لاستجداء بضع ليرات منهم مقابل هدية رمزية بدلالة كبيرة... هكذا هي بيروت، احتفال دون توقف، إنها تحتال على الحياة لمواجهة آلامها، ومواطنوها يقبلون على السهر والاحتفاء بلهفة كما لو أنهم يعيشون ساعاتهم الأخيرة قبل أن تُقرع طبول الحرب من جديد. الحروب لم تؤثر على هذا الشعب ولا أضعفت عمليات اغتيال رموزه عزيمته في مواجهة الصعوبات. ورغم أن الطوائف قسمته إلى فرق متصارعة، فإنه استطاع تجاوز الاختلافات العقائدية والمذهبية وتوحد من جديد...لأن المجتمع، في لبنان، أقوى من الدولة. بالتوجه إلى الضاحية الجنوبية، معقل حزب الله، يجد الزائر هناك احتفالات أخرى تخص المسلمين المعتنقين للمذهبين السني والشيعي على السواء: عاشوراء. خرج حسن نصر الله، الأمين العام للحزب، يخطب في أنصاره من «وراء حجاب»، لأن الرجل تتربص به أحدث تقنيات الموساد الإسرائيلي التي تبحث عن فرصة اغتياله والانتهاء منه. المهم أن الجميع يحتفل في لبنان، لكل طائفة عيدها، لكن الشعب عموما محتفل. ورغم أن بلاد الأرز احتلت من طرف فرنسا، التي تمثل أنجح نظام علماني في العالم، فإنها تركت للبنانيين أسوأ نظام طائفي في العالم. لا يهم، فالشعب يعرف أن «بيروت خيمته الوحيدة» و«بيروت نجمته الوحيدة»، كما قال الراحل محمود درويش، لذلك يتجاوز عُقد الطوائف ويذهب وحيدا لحل مشاكله، لأن المجتمع أقوى من الدولة وقادر على تجاوز الصعوبات لوحده، كما هو الشأن بالنسبة إلى سكان الجنوب الذين تكفلوا بحماية تراب بلادهم من الاحتلال الإسرائيلي، إلى حين تهيئ الدولة جيشها وتتمكن من فرض سيادتها على كامل ترابها. رغم أن من تكلفوا بالدفاع عن الأرض هم طائفة شيعية وهبت أبناءها للدفاع عن الوطن في جنوب لبنان، فبعض المسيحيين في الشمال ساندوها في حربها، وبينت إحصائيات صادرة عن مركز بيروت للدراسات أن 67 في المائة من اللبنانيين دعموا حزب الله في حرب، «إن قسما كبيرا منهم من المسيحيين...»، يكشف الدكتور حسين رحال، المكلف بالعلاقات الإعلامية السابق بحزب الله والمشرف على الموقع الإلكتروني الحالي للحزب. لبنان دولة أوربية ذات وجه عربي، هكذا كان يردد البعض، لكننا نريد إحياء الشعور العربي القومي عند المسيحيين، يقول رحال، ويضيف، في لقاء مع «المساء»: «هناك تقارب كبير بين الحزب والتيار الوطني الحر لميشال عون...». المصدر المسؤول بحزب الله يؤكد أن الأخير ليس شمولي العقلية، ولو كان كذلك لقام الحزب الذي «يسيطر» على جنوب لبنان بإلباس اللبنانيات هناك التشادور، يقول رحال: «نحن لسنا طالبان أفغانستان ولا وهابيي السعودية، نحن حزب يؤمن بالاختلاف ويدافع عن وطنه ونطمح إلى تدبير الشأن العام». هل ستمنعون باقي الطوائف من الاحتفال عند وصولكم سدة الحكم؟ يجيب رحال مبتسما: «لا يمكننا فعل ذلك، ونحن في دولة لا تمنح للطائفة التي تدبر الشأن العام الحق في أن تفعل ما تريده». سيستمر الاحتفال في بيروت إذن، ولو وصل حزب الله إلى سدة الحكم... لأن قدر اللبنانيين هو أن يحتفلوا لفترة في انتظار الحرب من جديد.