لما اختارت اللجنة التحضيرية للمؤتمر الثامن للاتحاد الاشتراكي شعار «حزب متجدد لمغرب متجدد»، اعتبر أغلب الاتحاديين ومن والاهم أن الحزب في حاجة إلى تجديد فعلي، يشمل المرجعية الإيديولوجية وطرق تدبير الشأن التنظيمي؛ والنقاشُ القويُّ الذي كان إبان المؤتمر، حول نقط المشاركة في الحكومة والإصلاحات الدستورية والدمقرطة الداخلية والشفافية وغيرها، دليلٌ واضحٌ على هذا الوعي القاعدي، اضطر عندها عبد الواحد الراضي إلى تلاوة ملحمة الرموز الأوائل للحزب، وانبرى يظهر للمؤتمرين كيف أن الليل والخيل والبيداء تعرفه.. على لازمة المتنبي، فقدم وعده الشهير باستقالته من الحكومة للتفرغ للشأن الحزبي. وانتظرنا أن يكون الرجل عند وعده، وتتاح لنا فرصة واحدة على الأقل في مرحلة ما بعد «السي عبد الرحيم» للقول إن هناك قيادة حزبية تجعل من نفسها ممثلة «للقوات الشعبية»، تتحمل المسؤولية التاريخية تجاه تردي الوضع السياسي وانحباس أفق الممارسة السياسية في مغرب الألف مقدس ومقدس، وتعلن انسحابها من لعبة يملك المخزن وحده كل مفاتيحها،.. غير أن وفاء الراضي بوعوده اقتصر فقط على «العمل داخل الكتلة»، لأن هذا يبرر طبعا الاستمرار في الحكومة، وما أحلاه من استمرار..! مع أن كل مطالب الكتلة ذاتها تم الانقلاب عليها جذريا، حتى من حزب العائلة الفاسية ذاته، ومن لا يزال يشك في الأمر فليرجع إلى البيانات الصادرة عن أحزاب الكتلة عقب فشل مفاوضاتها مع الراحل الحسن الثاني في بداية التسعينيات.. ليعلم ملحمة تحول أحزاب من أقصى اليسار إلى أقصى المخزن.. ها هو الراضي، اليوم، كاتب أول الحزب ووزيرا للعدل، ضدا على مقررات المؤتمر الثامن التي تمنع وضعا كهذا، بل ويراوغ حتى مقربيه في مسألة تقديمه وثيقة الإصلاحات الدستورية، ويساير قواعد عرفية لا تمت إلى الحداثة السياسية التي يتشدق بها أدعياء الحزب، عندما لم يملك شجاعة «السي عبد الرحيم» ليقدم استقالته بشرف... ويستمر موسم مهازل الاتحاد بخوضه حروبا «طفولية» مع حزب الهمة، ودخوله في تحالفات سوريالية مع العدالة والتنمية، مع أن العمل من داخل الكتلة كان ضمن النقط التي وعد بها الراضي إبان المؤتمر.. في الدعاية لنفسه. وللتاريخ نسجل هذا الكلام، لا يحق لأي حزب لا يعتبر الإصلاحات الدستورية شرطا لقبوله العمل الحكومي أن ينتقد حزب الهمة، فإذا كانت مخزنية هذا الحزب خطيئة في كتاب منتقديه، فليقدم من كان منهم في حل من هذه الخطيئة استقالته من عمله الحكومي إن كان وزيرا، وليكن له بعض من شجاعة السي عبد الرحيم والذي قدم استقالته أيام كان العمل السياسي عملا فدائيا بامتياز. قديما قال الإنجليز: من يدفع للعازف هو من يختار اللحن، أما العازف مدفوع الأجر فله أن يحرص على آذان أولياء النعمة وأذواقهم، بحرصه على تفادي «النوطات النشاز».. ولجم تهورات أفراد جوقته من مغبة عزف آخر.. اليوم، عزز الاتحاد تواجده في الحكومة بوزير في «الثقافة»، من حجم «بنسالم حميش»، ليستمر إسهام الحزب، ساسة ومثقفين وتقنوقراطا، في غموض والتباس سياسة هذا البلد، ويكون اتحاد ما بعد المؤتمر الثامن دليلا آخر على أن مسلسل تدخل المخزن في اختيار القيادات الحزبية لا يزال مستمرا، تماما كما هو التشدق بالحداثة السياسية في الحزب مستمر أيضا، بمناسبة وغير مناسبة، إلا الاستفادة من العبر فهي نعمة حرم منها الحزب منذ أكثر من عقد، فنتائج الانتخابات الجماعية الأخير، مثلا، دلت على أن ما وقع للحزب في 2007 ليس حادثا عرضيا كما رُوج له، بل إنها مؤشر قوي على أن الحزب أضحى مقبرة جماعية؛ وسنعطي مثالا واحدا.. مَن مِن الاتحاديين كان يتصور أن حزبهم سيعجز عن الحصول على عتبة المقعد الواحد في مدينة كبني ملال، وهي المدينة التي كانت تستقبل «السي عبد الرحيم» بعشرات الآلاف في ملعب كرة القدم؟ من كان يملك القدرة على التشاؤم، ويتصور الاتحاد سيخسر مواقع كانت إلى حدود التسعينيات قلاعه الأمينة كطنجة ووجدة.. إنها حكاية حزب يحتضر.