بعد انتهاء أشغال المؤتمر الوطني الثامن للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، انفتحت شهية المحللين لمحاولة تقييم الحدث وقراءة دلالاته ودراسة آثاره على مصير الحزب ومصير التيار اليساري والحياة السياسية عموماً بالمغرب، وذلك بحكم حجم الدور الذي لعبه الحزب في المسار السياسي للمغرب المستقل. ولاشك أن الإقدام على تمرين «التقييم»، يعني ضمن ما يعنيه، محاولة استجلاء عناصر «الضعف» وعناصر «القوة» التي عرفتها محطة المؤتمر الاتحادي الثامن. ويمكن أن نغامر أولاً باستعراض بعض الجوانب التي نقدر، عن خطأ أو صواب، أنها تندرج في خانة «الضعف» الذي عانى منه المؤتمر: - حصول بعض الارتباك والاضطراب في طريقة توصيف المرحلة السياسية الراهنة، فالبيان العام، يعتبر أن تجربة التناوب «شكلت منعطفاً تاريخيا نوعياً في التاريخ السياسي للبلاد» وأفضت إلى حصول مكتسبات «غيرت صورة بلادنا في الداخل والخارج وعززت مكانتها ضمن الديمقراطيات المنبثقة» ومثلت «زخما سياسياً ديمقراطياً وإصلاحياً». ثم يتجه البيان إلى الإعلان عن وجود أزمة سياسية اليوم لابد من مواجهتها، وأن هناك إصلاحات سياسية لم تعد قابلة للتأجيل». فكيف يكون وضع البلاد، بفضل التناوب قد حقق زخما وعزز مكانة المغرب بين الديمقراطيات «المنبثقة»، ثم تدحرج فجأة إلى السفح وغرق بغتة في حمأة «أزمة سياسية»؟ وإذا كانت هناك إصلاحات سياسية لم تعد قابلة للتأجيل فمعناها أنها أساسية وحاسمة، وعدم حصولها حتى الآن لا يسمح لنا ربما بالقول بأن بلادنا قد حققت زخما ديمقراطيا وإصلاحياً بدون تلك الإصلاحات وأن صورة المغرب قد تغيرت، مادام الوضع قد ظل مفتوحاً على أزمات وتراجعات مثلما حصل ويحصل الآن. وفضلاً عن ذلك، فإن البيان عندما يريد أن يدلل على نموذج التراجع الحاصل، يكتفي فقط بالإشارة إلى «التراجع عن المنهجية الديمقراطية في مرحلة كانت فيها كل الشروط مهيأة لنقلة ديمقراطية نوعية أعمق»، فلماذا لم ينتبه البيان العام إلى أن الخلل ربما يكمن في ضعف متانة الأساس الذي أُقيم عليه بنيان «التجربة» والذي لم يحمها من الانهيار. - وصول بعض «أعيان الانتخابات» الذين جلبهم الحزب من الأحزاب الإدارية إلى موقع المسؤولية في المكتب السياسي. لقد تولت قيادة الاتحاد مهمة استقدام أولئك الأعيان في إطار خطة براغماتية لتحقيق هدف معين، وهي اليوم تقدم الثمن السياسي. إن أخطر ما حصل في المؤتمر الثامن للاتحاد الاشتراكي هو تمكن الأعيان المستوردين من ولوج المكتب السياسي، ومعنى ذلك أنهم غدوا يتوفرون على قاعدة انتخابية داخلية مهمة (تصويت 420 مؤتمراً) وغدوا متواجدين في موقع حزبي حساس مسؤول عن التدبير السياسي والتنظيمي، وبالتالي أصبح بإمكانهم التأثير في القرارات اليومية للحزب وطنياً. - انتخاب وجه ينتمي إلى الجيل القديم في موقع الكاتب الأول، في مرحلة تتطلب التجديد، وفي مؤتمر عقد تحت شعار «حزب متجدد لمغرب جديد». الكاتب الأول المنتخب مسؤول سياسياً عن تدبير المرحلة السابقة التي لم تتحقق أهدافها المعلنة وتسببت في خسارة انتخابية فادحة للحزب، واعتبر مسؤولاً أيضا عن تدبير التفاوض حول مشاركة الحزب في الحكومة ولهذا أعلن، بعد الذي جرى داخل المكتب السياسي السابق، عن قرار تجميد وضعيته كنائب للكاتب الأول، بطريقة توحي بأن مصيره ارتهن إلى مصير الكاتب الأول السابق، ولكنه عاد من جديد ليحتل الصدارة ويسرق الأضواء ويسترجع مفاتيح الحزب. كان هذا هو اختيار الناخبين الاتحاديين ومهما كانت آثاره على صورة الحزب، فيتعين احترامه على كل حال. - إبقاء البيان السياسي العام على عدد من الأسئلة السياسية الآنية بدون جواب شاف. لقد انتظر الرأي العام أن يحدد البيان مواطن الخلل وموجبات النقد الذاتي في التجربة الحزبية، وموقف الحزب من فكرة العودة للمعارضة، واستراتيجيته التحالفية والانتخابية في أفق انتخابات 2009، وتقييمه لحركة فؤاد عالي الهمة، واحتمال البحث عن تحالفات جديدة، إلا أن قارئ البيان العام يظل على ظمئه وليس بمستطاع الإضاءات الواردة بهذا البيان أن تشفي غلته. ومع ذلك، فلابد من الاعتراف بأن هناك جوانب للقوة في هذا المؤتمر الذي يحمل طعماً خاصاً داخل المسارين السياسيين الوطني والاتحادي، ومنها على وجه الخصوص: - اعتماد مساطر ديمقراطية في انتخاب الأجهزة الوطنية، وتوفير الشروط السليمة لسريان تلك المساطر، والتي لم يسبق توفيرها في أي مؤتمر آخر للحزب. - عودة الخطاب الاتحادي إلى طرح قضايا الإصلاح الدستوري وأفق الملكية البرلمانية كمآل طبيعي للانتقال الديمقراطي الحقيقي. - النجاح في الحفاظ على وحدة الكيان الحزبي والتوصل إلى تدبير الخلافات والرهانات والمصالح المتعارضة لمختلف الأطراف عبر مساطر تنظيمية غير مطعون فيها وفي جو لم يخلف خسارات أو شروخ أو انهيارات في أركان البيت الاتحادي. - ولوج الاتحاد الاشتراكي حالة التطبيع التنظيمي والقانوني وانتهاء وضع داخلي كان أشبه ب«حالة استثناء» متسم أساساً بعدم وجود كاتب أول للحزب، وهو الوضع الذي امتد إلى عدة شهور وتعمق باحتداد الخلاف حول كيفية اختيار قادة الحزب وتجديد الأجهزة. والكاتب الأول الجديد الذي اختاره المؤتمرون لقيادة الحزب، ورغم كل ما يمكن أن يقال عن مدى توفره أو عدم توفره على الصفات المطلوبة لقيادة الاتحاد الاشتراكي في المرحلة الراهنة، فالمعروف عنه أنه تمتع في المراحل السابقة بعدد من الخصال الهامة، لعل من أبرزها: - الوضوح في المواقف والصراحة وتجنب التدليس والالتواء. لقد دافع دائما عن مواقفه بكل جرأة وهدوء وتبصر وبرودة أعصاب وأمام الكل، فهو من الذين يعتبرون أن اليسار أضاع فرصا سابقة للتفاهم مع الملك الراحل ومكن بذلك فئات من الانتهازيين وخصوم الديمقراطية من استغلال التناقض مع القصر لمحاولة جر أوضاع البلاد إلى الوراء. - عدم استعمال أساليب تنظيمية غير نزيهة في الاستقطاب لرأيه أو في صنع حلقات الأشياع ومحاولة السيطرة على الأجهزة أو في إقصاء أصحاب الرأي المخالف. - اللباقة والتعامل الحضاري مع الجميع والإنصات إلى الجميع واعتبار أن البيت الاتحادي يتسع لكل ساكنيه. - احترام القرارات الحزبية، حتى وإن اختلف معها وتقديم النقد الذاتي العلني في حالة ما إذا أتى سلوكا قدر إخوانه أنه غير متماش مع التوجهات الحزبية (حادث التوقيع على بيان الباخرة في الثمانينات). والأستاذ عبد الواحد الراضي وعد مباشرة بعد انتخابه كاتبا أول للاتحاد الاشتراكي، بتطبيق المقررات التي ستسفر عنها أشغال المؤتمر الثامن (جريدة الاتحاد الاشتراكي 10 نونبر 2008 ع 9019)، إلا أن التصريحات التي أدلى بها بعد انتهاء المؤتمر تطرح تساؤلات جدية بخصوص مدى انسجامها مع نص البيان العام الصادر عن المؤتمر والمنشور بجريدة الحزب. ففي الاستجواب الذي أجرته معه مجموعة ماروك سوار والمنشور بكل من جريدتي لوماتان والصحراء المغربية يوم 14 نونبر 2008، صرح الأستاذ الراضي بخصوص قضية استمرار المشاركة أو العودة إلى المعارضة، بما يلي: «لقد قررنا المشاركة والأسباب التي جعلتنا نقرر المشاركة مازالت قائمة، لكن ما لم يحصل عليه الإجماع هو طريقة المشاركة، فعلى سبيل المثال، لا يوجد فرق كبير بين الاتحاد الاشتراكي والتجمع الوطني للأحرار، في حين أُسندت إلينا 5 حقائب وزارية، ووزارة من دون حقيبة، أما التجمع فلديه 7 حقائب وزارية، ويرأس مجلسين برلمانيين»، وأضاف: «التزمت أمام المؤتمر بأن أجتمع مع قيادة الكتلة، وستكون لنا محاولات مع اليسار كذلك، وسنحاول أن نجمع الشمل، وسنحاول تقديم مطلب إصلاحات مشترك. معلوم، يجب أن ننتظر مؤتمر حزب الاستقلال، حينها ستكون أرضيتنا متوفرة وكذلك أرضية حزب الاستقلال، ونجتمع مع التقدم والاشتراكية، ونرى ما اتفقنا عليه، وما لم نتفق عليه، لكي ننجز ما اتفقنا بشأنه، ننجزه بهدوء وبالعقل، وبالمسؤولية. لا نهدف من طرح ملف الإصلاح إلى «المدابزة» لكن ما يهمنا هو الحكامة الجيدة، وما يجب أن نغيره، سواء في الدستور أو في القوانين، هي الأشياء المتنافية مع الحكامة الجيدة». تصريح الراضي يخلص عملياً إلى تبني موقف من ثلاثة عناصر: أ- البقاء في الحكومة لا نقاش فيه ولا داعي لإعادة تقييمه. ب- المشكلة الوحيدة للاتحاد الاشتراكي هي وزنه العددي في الحكومة (إعادة التفاوض من أجل مقاعد إضافية) ج- الحوار مع الحلفاء لا علاقة له بقضية المشاركة في الحكومة. أما إذا عدنا إلى البيان العام للمؤتمر، ورغم أنه لم يكن واضحاً ولا حاسما بالنسبة إلى العديد من القضايا، فإنه على الأقل ألزم القيادة الجديدة للحزب بالنقاش مع الحلفاء في «موضوع مشاركة الحزب في الحكومة»، وبشكل يضع بالضرورة هذه المشاركة في خدمة أربعة أهداف هي: الإصلاح الدستوري، والتحضير لانتخابات 2009 بشكل متوافق مع الأفق الإصلاحي الذي ينشده الحزب، ووضع تعاقد جديد يحدد طبيعة ومضمون المشاركة، ووضع إجراءات سياسية واجتماعية يُعلن عنها في أقرب الآجال. إن البيان العام إذن، يصرح بأن النقاش مع الحلفاء سينصب على «موضوع» مشاركة الحزب في الحكومة وليس على وزن أو حجم تلك المشاركة، وأنه يستعمل عبارة «المشاركة في حالة استمرارها»، أي يطرح فرضية عدم استمرارها وهو ما لم تطرحه تصريحات الراضي إطلاقاً، ثم إن البيان وهو يرسم الأفق الذي يجب أن توضع فيه مشاركة الحزب في الحكومة بشكل إلزامي، يحدد معالمه في شكل التزامات تقع على عاتق الحزب وعلى عاتق أطراف أخرى كالحلفاء والقصر. فالقول مثلاً بأن ربط المشاركة في حالة استمرارها بتعاقد جديد وبإجراءات سياسية واجتماعية يُعلن عنها في أقرب الآجال، لا يعني الحزب وحده، بمعنى أن امتناع الآخرين عن توقيع التعاقد أو عدم إصدار الإجراءات المشار إليها، يجعل المشاركة مخالفة لما حدده المؤتمر. لقد كان من المتوقع أن تُستغل طريقة تناول البيان العام لقضية المشاركة الحكومية لمنح القيادة بعض الوقت تتدبر خلاله الأمر بحثاً عن صيغة للبقاء في الحكومة يكون فيها ولو بعض التلاؤم الظاهري مع نص البيان العام، ولكن ما لم يكن متوقعاً هو أن يتم تجاهل ما جاء في البيان العام بهذه السرعة والتنصل من الالتزامات الواردة فيه، بطريقة سافرة، وبدون حد أدنى من الإخراج الفني. لا يمكن للاتحاد الاشتراكي أن يعود إلى تلك المراحل التي كان يتم فيها التغافل عن البيانات العامة الصادرة عن المؤتمرات، والتي كانت السياسة فيها تُمارس بغض الطرف عما يرد في تلك البيانات، لأن الثقة في رمز بحجم عبد الرحيم بوعبيد كانت أكبر من بيان عام. أما اليوم فإن الكاتب الأول خاض معركة قاسية لانتخابه متقدما ببضعة أصوات فقط عن منافسيه، ولم يعد هناك من سبيل إلا الاحتكام إلى الالتزامات والبرامج المكتوبة، وأصبح هناك رأي عام يحاسب ويراقب ويتتبع مدى احترام القادة لقرارات مؤسساتهم الحزبية، وانتهى عهد الازدواجية بين خطط معلومة ومعلنة وخطط مضمرة في رؤوس القادة. بعد المؤتمر الثامن للاتحاد الاشتراكي ظهر هناك خلل في قراءة وتأويل البيان العام والاعتراف بقوته الإلزامية، وفي انتظار تصحيح الخلل، نؤكد أن أحد أسباب فقد الساسة عندنا لمصداقيتهم هو شعور الناس بأنهم لا يحترمون تعهداتهم..