في بدايات القرن الثامن عشر الميلادي حرق الكاتب «جوناثان سويفت» كل المراحل حين حمَّل مسؤولية الكذب ليس لمعشر الكذابين المحترفين، بل لمن يصدق أكاذيبهم ويساهم في نشرها على أوسع نطاق.. بحال بَابَاغَيُّو. جاء ذلك الحكم القاطع في كتاب «سويفت» الذي يحمل عنوانا بليغا: «فنّ الكذب السياسي». هاذ الشيء وقع في أوربا منذ ثلاثة قرون، فما هو واقع الحال في القرن ال21، حيث يتم تنويم الرّعايا وتخدير حسّهم النقدي إن لم يكن ذلك عن طريق تحويل أنظارهم عن كل ما هو جَوْهَري وحَيَوي عبر افتعال أزمات ظرفية وصراعات بين أقطاب النفوذ الذين «يَتَنَاتَفُون» ويتساءلون صاحب دعوتي من يكون، أمام كاميرات التلفزة وعلى أعمدة الصّحف الغرّاء وأمام الحشود في التجمعات الخطابية، وعندما يُسدل الليل ظلامه، ينظمون سهرات عائلية (هُوما عائلة وحدة) حميمية خالية تماماً من أي «تَنَاتُفْ» أو شنآن، بل يَسُودها التفاهم والوئام ويحكمها منطق البزطام واقتسام الوزيعة السياسية والمالية والاقتصادية والحقائب الوزارية. وشعارهم «علاش أسيدي نعطيْوا خيرنا لغيرنا»؟ ونادراً ما يتسلّل مزاليط الأمة إلى ذلك المربع الذّهبي، إذ إن دور الرعية ومهمتها الأساسية تتمثل في استهلاك الأكاذيب السيّاسية والشعارات والأحلام غير قابلة للحياة، ويتم توظيف الرّعايا كأكباش فداء حين تشعل العافية بِينْ «لَكْبَارْ» الذين يتحاربون غالبا بالوكالة والشعب دِيما وَاكَلْها فَعْظَامُو، وهُوَما يحصدون الغلّة ويحصلون على مواقع جديدة. يرى «سويفيت» أنّ فن الكذب السياسي هو أن تقنع الشعب بأمور خاطئة لكنها في صالحه إذا كانت الغاية من الكذب طيبة. والناس إلى عرفو الحقيقة راهم يحماقُو. ويقول «ماكيافيلي» إن كذابي اليوم يشبهون بشكل مثير كذابي الأمس. ويمكنني أن أضيف أن كذابي الغد سيشبهون كذابي اليوم، إلى بقات الأمور على هذا الحال. لكن كل منظري الكذب يُجمعون على أن الحكام مُجبَرُون على جعل الشعوب سعيدة وديما راشق ليها بالرغم من أنفها، تكون فرحانة بزّر منها ولا ما يعجبها حَالْ، فالرعية عاجزة في نظرهم عن صنع سعادتها بأيديها (الكذابة بقاو فكلمتهم وبعض الشعوب فدار غفلون)، ولا بد لها من وصي يقود خطاها وينير لها الطريق ولو بالأكاذيب الضامنة للخلاص، إذ إن الحقيقة أقوى من أن تتحملها الشعوب ذات الإحساس المرهف والتي يرى فيها حِكامها مجرد «عقول عصافير» مْخَيْخَاتْها قَدْ الحَمْصة، لا تحتمل أكثر من فكرة واحدة، لكنها تحتمل سَيْلاً لا يتوقف من الأكاذيب السياسية.