إفريقيا لم تكن دائما سيدة قراراتها،صحيح أنها حصلت على استقلالها السياسي، لكن استقلال المؤسسات والشخصيات التي تتعاقب على حكم البلدان المشكلة للقارة يبدو أنه مازال بعيد المنال في ظل التطاحنات العسكرية والمطامع التي تحرك الرغبة في الاستيلاء على الحكم. الإعلام، بدوره، له نصيب من التأثير الممارس على حكام إفريقيا. فغياب الديمقراطية الحقيقية يجعل حكام القارة السمراء في تبعية دائمة لإعلام يلمع صورتهم مقابل عطايا مادية هائلة. كل مقال له ثمنه. «جون أفريك»، الأسبوعية التي أسسها الوزير التونسي الأسبق البشير بن ياحمد، واحدة من هذا «اللوبي» الإعلامي الذي يعرف كيف تؤكل كتف إفريقيا. مما لاشك فيه أن هذا هو السبب الذي كان وراء منح باماكو امتياز توضيب منشور إعلاني راق ل«أفريك ماغازين»، أحد أحدث منشورات مجموعة جون أفريك، والذي وزع خلال أشغال قمة إفريقيا- فرنسا التي انعقدت خلال شهر دجنبر 2005. وتنطلي الخدعة على كل الذين ينظرون إلى الصحيفة من بعيد. هذا الأمر تشهد عليه «الاتفاقات الخاصة» الموقعة مع صحف أو مجلات معروفة عالميا. ف «جون أفريك» تترجم وتنشر مقالات مقتبسة عن ال«نيويورك تايمز» أو ال«فايننشال تايمز» اللندنية أو ال «فوراين بوليسي» أو غيرها. صحيح أن «الأسبوعية الدولية المستقلة» يمكنها أن تتباهى بامتياز تاريخي يتمثل في كونها تأسست في أكتوبر 1960 بتونس تحت عنوان «أفريك أكسيون». وقد تأسست موازاة مع فترة الاستقلالات، التي شهدت شكليا على الأقل انعتاق، إفريقيا المستعمرة. وقد واكبت الصحيفة بعد تأسيسها، ولسنوات طويلة، الأحداث التي شهدتها تلك الفترة. عندما أصدر العدد الأول من الصحيفة، لم يكن الشاب البشير بن ياحمد نكرة. فابن مدينة جربة هذا هو وزير الإعلام على عهد الحبيب بورقيبة. إلا أنه سرعان ما بدأت المضامين التحريرية القاسية للصحيفة الجديدة تزعج «أسد قرطاج». وجاء مقال بعنوان «خلاف سيء» ليكون علامة على بداية نهاية الحقبة التونسية للصحيفة. المقال يشكك في الاتهام الموجه إلى رئيس سابق للمجلس التونسي في موضوع الاختلاس الضريبي. وهو ما أثار غضب بورقيبة، الذي لوح بالصحيفة وهو يستشيط غضبا في أحد الاجتماعات للمكتب السياسي لحزب الدستور الجديد، علما بأنه كان أحد المساهمين فيها. كان واضحا، إذن، أنه صار مفروضا على فريق المؤسسين أن يغادر تونس. فعلا، حدث ذلك في شهر ماي 1962 ليستقرالفريق في روما، قبل أن يعود للاستقرار على ضفاف نهر السين، وتتخذ الصحيفة مقرا لها في زنقة بروفونس، ثم شارع تيرن، قبل أن يكون الاستقرار النهائي، في شهر يوليوز، 1989، ب 57 مكرر، زنقة أوطوي. «بورقيبة لم يكن يريد، كيفما كان الثمن، أن يغامر باكتشاف كارثة ما عندما يفتح الصحيفة يوم الاثنين، يقول البشير بن ياحمد. لكن، ثمة عامل آخر عجل برحيلنا وهو حرب الجزائر التي كانت تسير إلى نهايتها، وبالتالي أصبحت تونس تفقد شيئا فشيئا من مركز جذبها.» باعتباره الزعيم الوحيد القوي بعد الله، يمارس القائد بن ياحمد، المعروف ب «سي البشير»، والذين يجاورونه، نوعا من التاثير الملتبس. المعجبون به يصفونه ب «مجنون الصحافة»، وبأنه أحد آخر الوجوه البارزة في أسطورة الصحافة المكتوبة، وبالجذاب، وبالإنسان المدني المثقف، وبالشخص المهووس بالعمل، وبالحاكم في «ملكية خالية من أي نظام باروني أو فيودالي وحيث يمكن للصحافي المبتدئ البسيط أن ينشر مقاله في الصفحة الأولى إذا كان يستحق». صديق قريب سابق من «سي البشير» يصفه بأنه «يملك قوة عمل هائلة وذكاء استثنائيا، يبدأ العمل من الساعة الخامسة صباحا إلى الساعة الحادية عشر ليلا. نظم حياته خير تنظيم. لا يدخن ولا يشرب ولا يحضر المناسبات العامة.» جون بول بيغاس، نائب مدير مجموعة جون أفريك بين سنتي 1994 و1997 يقول عنه: «هذا الرجل له شيء من العبقرية؛ هو من طينة روبير هيرسان وفليب أموري. يحدث له أن يسخر من نفسه بنوع من الفكاهة الشرسة»... مقابل هذا البورتريه الجميل الذي يرسمه له هؤلاء، يرسم له آخرون صورة أخرى. صحافية سابقة في «جون أفريك» تقول إنه «رئيس متعجرف، مغرور بنفسه. «تتذكر هذه الصحافية كيف عاملها، قبل 30 سنة، حينما تجرأت على الدخول إلى مكتبه دون أن تحمل معها مذكرتها. صحافي آخر يصفه ب«الرئيس المتضخمة أناه، الذي يمكنه أن يهينك دون مراعاة لشيء. إنه مستبد متنور، لا يقف أمام شيء ولا أحكام مسبقة له». أما الصحافي باتريك جيرار، الذي انتقل مؤخرا من مجلة «ماريان» إلى راديو شالوم، فيقول عنه: «لقد تعلمت معه دروسا رائعة في الصحافة. إذا أحس بأنك تملك بعضا من الكفاءة، يمكنه أن يستدعيك إلى مكتبه 3 أو 5 مرات للتدقيق في مقال ما. لقد كانت تجربة قاسية، لكنها مفيدة». قاسية؟ إنها كلمة لطيفة مقارنة مع الحقيقة. فصحافيون آخرون خرجوا من التجربة شبه أموات، مثل تلك الصحافية التي قيل لها، بشكل ساخر، أن تتعلم أبجديات الكتابة الصحافية على يد المتدربين علما بأنها كانت مسؤولة عن ركن في الأسبوعية. صحافي آخر، وهو أحد الصحافيين القلائل المنحدرين من إفريقيا جنوب الصحراء، يقول: «إذا كنت ضعيفا، تموت». هل يتعمد «سي البشير»، الفرنسي التونسي، الذي حصل على الجنسية الفرنسية مؤخرا، الاعتماد على المبتدئين من باب التواضع عندما يقول إنه «يوفر المسبح دون معلم السباحة»؟ فابن التاجر الجربي (نسبة إلى جربة التونسية) دفع بعشرات الصحافيين المبتدئين إلى العمل، دافعا إلى الغرق القدماء لمصلحة «المقربين»، الذين يقول أحدهم: «يمكن أن تأتيك فرصة السفر بسرعة، كما يمكن أن توقع مقالا للغلاف بعد ستة أشهر من العمل فقط أو توقع على حوار مع أحد الرؤساء.» ويبقى من واجب الصحافي أن يعتبر أن الاشتغال مع هذا الرجل المهم، الخبير في خلق الأوضاع المؤقتة، والخبير في القضايا أمام المحاكم وهفوات القانون الاجتماعي، امتياز كبير. فسي البشير خبير في سن فترات التدريب، وفي العقود المحددة بتاريخ والمستأنفة من جديد، وفي التسريحات المفاجئة، وفي الرواتب الهزيلة...