بعيدا عن بلده الأم إنجلترا، حل والتر هاريس ابن إحدى العائلات البريطانية الغنية بالمغرب في القرن التاسع عشر، وسافر في ربوعه وتعرف على عادات المغاربة وتقاليدهم. بعد سنوات من استقراره في طنجة، تعرض هاريس للاختطاف وسقط في أيدي رجال مولاي أحمد الريسوني، الرجل القوي في طنجة الشهير بكونه قاطع طريق وجبارا ومختطفا. نشر هاريس فصول قصة اختطافه، ولقائه بالسلطان مولاي الحسن وحياة القصور الفخمة بأسلوبه الساخر الممزوج بالطرافة في كتابه «المغرب المنقرض» الذي تنشره «المساء» هذا الصيف على مدى حلقات... عاد مولاي عبد العزيز إلى فاس مع نهاية 1902، وفي نفسه طموح إدخال إصلاحات على نظام الحكم، رغم اللامبالاة التي ظل يتخبط فيها. نوايا السلطان كانت في طياتها طيبة، لكنها اصطدمت برفض وزرائه لكل مشروع إصلاحي يود مولاي عبد العزيز تطبيقه في المغرب، والتي كان من شأنها أن تغير عادات عيشهم وتقلص ثرواتهم وتزعج خططهم للرشوة التي يأملون أن تدوم لما فيه مصلحتهم. لهذا يغضون الطرف عن إسراف السلطان في الملاهي ويراقبون تبذيره للأموال ومداخيل البلد دون أن يحركوا ساكنا، وانتقلت مختلف أشكال الإشاعات بين القبائل حول ما يدور داخل القصر. مثلا عندما وجد السلطان أن الجدران البيضاء للساحة الداخلية للقصر قد تغير لونها، بادر إلى صباغتها باللون الأزرق، وشكل ذلك إبداعا جديدا داخل القصور الملكية وغير معروف في التقاليد السائدة. أضحت جدران القصور بارزة من التلال المحيطة لفاس وأثار اللون الأزرق انتباه الفلاحين الذين يقصدون المدينة للتسوق. بالنسبة للوزراء، يعد الأمر خروجا عن العادات الإسلامية وتقليدا للطقوس المسيحية، وتكفل أحد الأعوان بنشر خبر أن مولاي عبد العزيز خسر ثروته بلعب الورق مع المسيحيين، ويراهن بمرافق قصره لتعويض الخسارة، وتذهب الإشاعة أبعد من ذلك إلى أن السلطان قد خسر القصر لفائدة المسيحي الذي قرر إعادة صباغته باللون الأزرق. الأمر المؤكد في الحكاية أن لعب الورق لم يكن معروفا داخل أسوار القصر، وكيفما كانت ملاهي مولاي عبد العزيز، إلا أنه لم يكن يهتم أبدا بتلك اللعبة، وبما أن القمار واللعب بالمال حرمه القرآن، فقد حرص السلطان الشاب على تشديد مراقبته لتطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية في القصر. انتشرت بسرعة شائعات المد المسيحي وحاول كل طرف حماية مصالحه من هذه الإشاعة، خصوصا المدعو عمر الزرهوني أو الجيلالي الذي حاول خدمة مصالحه إلى أبعد حد. كان رجلا متعلما وعمل لفترة من الزمن كاتبا في القصر، لكن خطأ إداريا وضع حدا لعمله هناك، لينتقل بعدها للعمل مع حمو الحسن، القائد الأمازيغي لقبائل بني مطير، والتقيت به هناك وتعرفت عليه عن كثب. غادر الجيلالي عمله مع القائد سنة 1901 واختفى داخل البلد، وإضافة إلى فصاحة لسانه ومواهبه الفطرية التي تميز بها، كان أيضا مزورا محترفا ويجيد بعض الألعاب السحرية اليدوية. ساعدته هذه الملكات على العيش وإعالة نفسه والسفر من قبيلة إلى أخرى على ظهر حمارته، ليطلق عليه الناس لقب «بوحمارة»، وسطع نجمه كثيرا بين قبائل الريف. كان بوحمارة يسافر وفي ذهنه فكرة واحدة وهي أن يكسب حياته، لتتخذ حياته بعدها مسارا آخر. طبع طريقة حديثه مع الأهالي بمسحة دينية جعلته يخبر بعض القبائل بأنه المهدي المنتظر، بل لم يتردد في القول إنه مولاي محمد، الابن البكر للسلطان الراحل مولاي الحسن. زهده في العيش وامتطاؤه لتلك الدابة جعلا بوحمارة في أعين الأهالي شخصا عجائبيا وحظي بمكانة خاصة في قلوبهم. مع نهاية خريف عام 1902، غادر مولاي عبد العزيز مدينة فاس في اتجاه العاصمة الرباط، وتأخرت مغادرته بسبب ثورة بوحمارة، وقلل رجال الجيش من حجم ذلك العصيان، لينطلق الملك في شهر نونبر، وأرسلت فرقة مسلحة إلى تازة لإخماد الثورة. كان الوضع دقيقا والكل كان يترقب تحديد هوية القائد الذي سيختاره السلطان وتوقف مستقبل حل تلك الأزمة على القوات المسلحة الملكية التي قادت المواجهات. لم تتوقف مظاهر الفساد وانتشرت الرشوة بشكل رهيب مما ضاعف من حجم الأزمة وعقد الوضع في البلاد. طلبت ساعتها من السلطان وأنا معه في فاس قبل سفره أن يخبرني من اختار لكي يقود الجيش ضد بوحمارة، وأمام دهشتي الكبيرة أجابني بلا تردد: «القائد سيكون شقيقي مولاي الكبير»، لم أصدق في البداية ما قال وأخبرته أن مولاي الكبير مازال طفلا ولم يكن أبدا في حياته جنديا، ليجيبني مولاي عبد العزيز قائلا: «هذا صحيح، لكن باقي إخوتي قادوا حملات عسكرية في السابق وقد حانت فرصة مولاي الكبير لكي يغتني قليلا». كان يقصد بكلامه أن الأمير سيحصل على الأموال من المناطق والقبائل التي ستكون حلبة المواجهات. رافقت السلطان في نونبر عندما غادر فاس باتجاه الرباط، وارتفعت وتيرة الحراسة عندما وصل صاحب الجلالة إلى مكناس، لنصل بعد أيام إلى منطقة زمور التي كانت فيها الحرب أشد وطأة..