تأسست بباريس منتصف شهر يونيو الماضي جمعية تحمل اسم «جمعية السينما العربية الأوروبية» وضعت ضمن أهدافها «سدّ الثغرة المُتمثلة في قلة التبادل في مجالات السينما، والإنتاج السمعيّ/البصريّ بين الدول العربية، والاتحاد الأوربي من جهةٍ، وبين البلدان العربية في ما بينها من جهةٍ أخرى»، إضافة إلى العمل على «نشر معرفةٍ فضلى بالآخر من خلال إقامة عروض مُنتظمة، وتظاهراتٍ دورية للأعمال الفنية في مجال الفنّ السابع، أكان ذلك في شمال المتوسط أم جنوبه». الجمعية، التي أسسها صحافيون ونقاد سينما فرنسيون وعرب مقيمون بفرنسا (من ضمنهم الناقدة المصرية ماجدة واصف، مديرة قسم السينما بمعهد العالم العربي بباريس طيلة عشرين عاما، والناقد السوري صلاح سرميني، والصحافية اللبنانية هدى إبراهيم) وضعت، كذلك، ضمن مهامها المستعجلة، التحضير لمهرجانٍ سنويّ مُخصص للسينما العربية في باريس، ينتظر أن تعقد دورته الأولى عام 2010. والواقع أن الحاجة باتت ماسّة إلى مهرجان من هذا النوع، بعد الفراغ الذي خلّفه غياب «بينالي السينما العربية» الذي نظمت منه 8 دورات بين عامي 1992 و2006 من قبل «معهد العالم العربي»، قبل أن يتوقف بسبب غياب الدعم المالي من جهة، وخروج العالم العربي من دائرة الاهتمام الثقافي والفني للسياسة الفرنسية في عهد الرئيس الحالي نيكولا ساركوزي، من جهة أخرى. وتنبع أهمية مهرجان من هذا النوع ليس فقط في كونه يتيح الفرصة أمام الأوربيين للتعرف على جانب من النتاجات السينمائية العربية ولتعزيز الحوار الثقافي- الفني بين ضفتي المتوسط وفتح آفاق جديدة أمام السينما العربية فحسب، ولكن لأنه يتيح -فوق ذلك- إمكانية اللقاء والتعارف والحوار بين السينمائيين العرب أنفسهم، الذين مثل بينالي باريس الفرصة الوحيدة لجمعهم مرة كل سنتين، قبل ظهور مهرجان دبي قبل خمس سنوات ومهرجان وهران قبل سنتين. صحيح أن هناك بعض المهرجانات الخاصة بالسينما العربية تنظّم في بعض البلدان الأوربية (أشهرها مهرجانا روتردام وبروكسيل)؛ إلا أنها تعقد في سياق مختلف تماما، صغير ومحدود، يرتبط بما يمكن أن نسميه «التنشيط» المحلي الذي يستهدف الجالية العربية المقيمة بتلك البلدان وتعتمد ميزانيته أساسا على الدعم الذي تخصصه بلديات المدن من أجل تلبية الحاجات الثقافية والفنية لتلك الجالية باعتبارها الجمهور الأساسي الذي يستهدفه المهرجان. يضاف إلى ذلك أن القائمين على أمور تلك المهرجانات هم، في الغالب، أناس بعيدون عن السينما ويركزون اهتمامهم على «ميزانية» المهرجان وما يتلقاه من «دعم» أكثر مما يهتمون بأبعاده الجمالية والفنية والثقافية وبالأثر (الطيب أو السيىء) الذي يمكن أن يخلّفه في أوساط الهجرة العربية بالبلدان الأوربية. أما في حالتي دبيووهران (والمنامة، قبل ذلك، في مهرجان عربي عقدت دورة وحيدة منه عام 2001)، فإن الأمر مختلف تماما، ويندرج ضمن العمل على تلبية حاجة حقيقية يستشعرها العاملون بالميدان إلى مكان-موعد يجمعهم، يعرضون فيه أفلامهم ويلتقون ببعضهم البعض حولها قصد التعارف المباشر وتبادل الخبرات واكتشاف التجارب الجديدة، إلى غير ذلك. لقد انطلق «مهرجان وهران الدولي للسينما العربية» عام 2007، وتعقد دورته الثالثة في الأسبوع الأخير من هذا الشهر (23-30 يوليوز 2009)، في أفق الاحتفال بالأفلام الروائية العربية الطويلة والقصيرة التي يتم إنتاجها، سواء داخل العالم العربي أو خارجه، وتشجيع مخرجيها عن طريق جوائز مالية هامة (50 ألف دولار لأحسن فيلم روائي طويل، و40 ألف دولار لأحسن فيلم عربي قصير)، أما مهرجان دبي السينمائي الدولي (الذي انطلق عام 2004) فقد أضاف إلى عروضه الدولية - ابتداء من دورته الثالثة المنعقدة عام 2006- مسابقة خاصة بالأفلام العربية أطلق عليها اسم «مسابقة المهر للإبداع السينمائي العربي»، خصص فيها جوائز للأفلام الروائية العربية الطويلة والقصيرة والأفلام التسجيلية (16 جائزة) تبلغ قيمتها أزيد من 300 ألف دولار (منها 50 ألف دولار لأفضل فيلم روائي طويل). كما أضاف، العام الماضي، مسابقة ثانية أطلق عليها اسم «مسابقة المهر للإبداع السينمائي الآسيوي الإفريقي» خصصها لأفلام القارتين مع جوائز بقيمة مماثلة لمبلغ الجوائز العربية. اللافت للانتباه أن الاهتمام بالأفلام العربية في هذين المهرجانين يصاحبه -بخلاف ما يجري في مهرجانات أخرى تنظّم بالعالم العربي- اهتمام قوي باللغة العربية يجعلها اللغة الرئيسية للتواصل (بين الناس ومع الأفلام المعروضة)؛ وإذا كانت الحاجة قائمة إلى الأجانب في بداية إطلاق مهرجان دبي، مثلا، فإنه تم التعامل معها باعتبارها ضرورة مؤقتة، وحين صار المنظمون يتوفرون على ما يكفي من الخبرة والتجربة شرعوا في الاستغناء بالتدريج عن هؤلاء الأجانب ابتداء من سنة 2007، وتعويضهم بالكفاءات الإماراتية والعربية بصفة عامة؛ مما يكشف عن كون الأمر لا يتعلق، لدى الواقفين خلف المهرجان، بمجرد ملء للفراغ وإضافة «احتفال» عابر إلى «الاحتفالات» التي تنظم ببلدان عربية أخرى تحت اسم «مهرجان»، وإنما هو يتعلق بتصور عام لولوج المنطقة «أبواب الحداثة» اعتمادا على الفن، وخاصة منه السينما، حيث لوحظ أن مهرجان دبي ساهم، بعد سنوات قليلة على انطلاقه، في ظهور طاقات سينمائية هامة على مستوى الإمارات، التي صارت تلعب دور القاطرة هنا بالنسبة إلى باقي بلدان الخليج، مساهمة في حرق المراحل ودفع الجميع إلى الابتعاد عن دور المتفرج السلبي والمغامرة بطرح الأسئلة الحارقة بخصوص الإبداع السينمائي ودوره في تطوير علاقة المواطن العربي بواقعه وبذاته وبعلاقاته مع «الآخر»، مع الآخرين. وتساعد على ذلك، دون شك، طبيعة تنظيم المهرجان التي تقوم على بساطة اللقاء وتكسير الحواجز بين كل المشاركين فيه (من مخرجين ومنتجين ونجوم ونقاد وصحافيين...) الذين يجالسون بعضهم طيلة أيامه بصفة مستمرة دون بروتوكول ودون تعقيدات لا داعي إليها. ولعل هذا الحرص على «الهمّ العربي» داخل مهرجان دبي هو ما جعل منظميه يوقعون مؤخرا اتفاقية شراكة مع «مؤسسة السينما العالمية» (التي أسسها المخرج الأمريكي المتميز مارتن سكورسيزي بهدف ترميم وحفظ روائع السينما العالمية)، تقضي بترميم روائع الأفلام العربية القديمة والحفاظ عليها في أفق تطوير هذا الفن وتمكين الأجيال المقبلة من الاطلاع على بداياته الأولى في العالم العربي. ضمن هذا الأفق، يمكن القول إن مسابقة المهر العربي، بالطريقة التي تنظم بها وبالنتائج الملموسة التي حققتها، تبين أن فتح فضاء خاص بالسينما العربية (وتجاربها الجديدة) ضمن مهرجاناتنا «الدولية» من شأنه أن يفتح أفقا جديدا أمام السينما الوطنية للتفكير والحوار والإبداع والارتباط بأسئلة الواقع الجمالية والفنية كمدخل لبناء علاقة جديدة مع المشاهدين، داخل الوطن وخارجه.