فيليبي غونزاليث ماركيث، اسم صنع الانتقال الديمقراطي في إسبانيا وأخرجها من النفق الذي عاشت فيه طيلة عقود طويلة، فقصته لا تعدو كونها قصة ابن بائع الحليب الذي ولد في مدينة إشبيلية وبها تربى، مقسما وقته بين الدراسة التي لم يكن لامعا فيها وقيادة شاحنة العائلة لجمع الحليب من صغار المزارعين، بل كان يأتي إلى الجامعة وسترته التي تحمل بقع الحليب تدل على عمله، لكن ذكاءه وقوة شخصيته سيجعلانه يلمع مثل نجم صغير سيكبر مع الوقت ليتحول إلى رمز للديموقراطية في العالم بأسره. إنها تفاصيل حياة تبدو عادية لرجل غير عادي. خلال مؤتمر عام 1979، لم يستطع فليبي غونزاليث أن يقوم بالشيء الكثير من أجل إزاحة مفهوم الماركسية من توجهات الحزب ووضعه في وسط اليسار،إذ حصلت الارضية الأيديولوجية التي طرحها فرانسيسكو بوستيلو المدافعة عن الماركسية على 61 في المائة من أصوات الناخبين، مما دعا غونزاليث إلى الاستقالة من منصبه ككاتب عام للحزب الاشتراكي وتبعته القيادة الحزبية، ولم يكن يملك المتشبثون بالخيار الماركسي بديلا، فلم يكن يمكن أن يقود الحزب أشخاصا يحملون قناعات إيديولوجية مختلفة عن ما طرحته الأرضية وصوت عليه عدد كبير من المؤتمرين، وأمام الفراغ الذي تركته استقالة غونزاليث ورفاقه انتهى المؤتمر بتشكيل لجنة مؤقتة لتسيير شؤون الحزب والدعوة إلى مؤتمر آخر، وكان بابلو كاستيانو، أحد القادة الماركسيين داخل الحزب، قاسيا مع اللجنة المسيرة التي اتهمها بعدم الحياد وقيامها بعملية تطهير «عرقي» تتمثل في الطرد وتجميد العضوية لعدد من أتباعه حتى يتم ضمان إعادة انتخاب غونزاليث.. وعقد الاجتماع الثاني في أواخر شتنبر 1979 وتميز بتقديم ورقة أعدها غوميث لورونت وفرانسيسكو بوستيلو وفيرناندو موران التي انهزمت أمام الأرضية التي قدمها غونزاليث التي قام بدعمها 85 في المائة من المندوبين، وكان انتصار المعتدلين ناتجا عن عدة عوامل، منها أن غونزاليث وبعد انتهاء المؤتمر الأخير بذل جهدا كبيرا في زيارة جميع الجهات والتجمعات التي يوجد بها أكبر عدد من مناضلي الحزب من أجل شرح نظريته. وسواء بالنسبة للمناضيلين الذين كانوا في الحزب منذ الأزمنة الصعبة أو أولئك الذين التحقوا به في فترة الانتقال الديمقراطي والذين كانوا يشكلون الأغلبية فقد انتهوا إلى دعم تيار المعتدلين الذي يمثله غونزاليث والفونسو غييرا ورامون روبيال، وفي الواقع فإن هذه القيادة دعمت الحزب أكثر من أطروحتهم في حد ذاتها، بالإضافة إلى ذلك فإن «لوس فليبيستاس»، نسبة إلى فليبي غونزاليث حظوا بدعم وسائل الإعلام وعدد كبير من شرائح المجتمع الإسباني التي باتت تعتقد بأن الانتقال الديمقراطي لا يجب أن يقوم على التوتر الاجتماعي، وأنه من الواجب تحديث الخطاب والممارسة السياسية الاشتراكية، لذلك كان مهما جدا ما أحال عليه المؤرخ كارلوس سيكو سيرانو بقوله «موقف فليبي غونزاليث والتشبث الأخلاقي بفكرته الذي دعم به أطروحته جعله يحظى بالإعجاب ويظفر بالتصفيقات من طرف الاشتراكيين وغير الاشتراكيين، فهو لم يكن يجهل الجهد الذي يلزم بذله من أجل الظفر بالمصداقية»، ووفق نفس الخط يشير بريستون إلى أنه «بعد دعم أقدامه في القيادة بقي على الاشتراكيين ضرورة الفوز الفوري بالانتخابات وإنهاء مسلسل دمقرطة البلاد». ورافق دعم موقع غونزاليث في البيت الاشتراكي الإسباني حصوله على الاعتراف الدولي بعد تعيينه في نهاية 1978 نائبا للأممية الاشتراكية، وتزامنت نجاحات الزعيم الاشتراكي الشاب بشكل غريب مع المشاكل الكبرى التي كان يعيشها زعيم حزب الوسط الاجتماعي ورئيس الحكومة أدلفو سواريث بسبب الخلافات العميقة الناشبة بين بارونات الحزب واندلاع موجة الإرهاب الذي تقوده منظمة إيتا مجددا، بالإضافة إلى المشاكل الاقتصادية التي بدأت تظهر بحدة، ونضيف إلى كل ذلك الانزعاج العسكري من القوانين الجديدة في الباسك وكاتلونيا التي منحت سلطات جهوية، وكانت المشاكل ستأتي من إقليم الأندلس الذي لم ترد الحكومة في البداية منحه استقلالية كاملة مثل باقي الأقاليم التي سبق ذكرها، بيد أن الحزب الاشتراكي وعلى رأسه فليبي غونزاليث فرض ضرورة تمتيع الإقليم بكامل السلط الجهوية ونجح في مسعاه بعد الاستفتاء الذي جرى في 28 فبراير 1980، لكن هذا الموقف الذي اتخذه الاشتراكيون أدى إلى تدهور الأوضاع وتعمق الأزمة داخل حزب الوسط الاجتماعي، كما أن فوز الأحزاب القومية في بلاد الباسك وكتالونيا لم يمنع الحزب الاشتراكي من الحصول على وضعية مقبولة في الوقت الذي كان فيه حزب الوسط الاجتماعي يغرق تماما. وحاول سواريث في ظل هذا الوضع أن يعيد الإمساك بزمام الأمور عبر إجراء تعديل حكومي والقيام بفتح نقاش حول السياسة العامة في البلاد، بيد أن وسائل الإعلام كانت تعكس حالة عدم الرضى التي كان يعيش فيها الإسبان والذين عبروا عن قناعتهم بكون الحكومة لا طائل منها، وفي هذه اللحظة انتقل غونزاليث إلى مرحلة الهجوم عبر انتقاد رئيس الحكومة أدلفو سواريث بسبب انعزاليته وميله إلى الاستماع فقط إلى آراء أبريل مارتوريل، صديقه ونائبه، وظهر لغونزاليث أنه ليس هناك أي فهم حقيقي لحاجيات المواطنين. وضمن استراتيجيته المتحرشة بحزب الوسط الاجتماعي قدم غونزاليث ورقة تقنية عرض فيها داخل البرلمان ما يجب أن تقوم به الحكومة، وتلقى غونزاليث هجوما قويا من عدة وزراء في تدخلاتهم، فيما التزم سواريث الصمت وأراد أن يجعله صوتا معزولا من خلال تدخلات نائبه أبريل مورتريل، ونقل النقاش عبر التلفزيون الوطني الإسباني وشاهده الإسبان، مما خلف اعتقادا لدى العديدين بأن وصول الاشتراكيين إلى الحكم في إسبانيا بات مسألة وقت.