محمد بنطلحة شاعر مغربي آثر السير «بعكس الماء». لذلك حافظ على نقاء سريرته، ومارس أقصى توتراته في العلاقة بالشعر وبالمعرفة المؤسسة له. توتر به ينتزع الشاعرُ مساحته الخاصة من الصمت، حيث يقيم، بعيدا عمّا تُحيكه بعض الأيدي التي تتأذى من صمت الشاعر مثلما تتأذى من كلامه. فيكون الأذى جنايةَ السياق على «النفوس الضعيفة» التي لا تفرح بالشاعر، ولا تضعه في تلك المكانة الرفيعة من القلب. في كل الأحوال لا ذنب للشاعر، ولا لوم عليه. فحياته ليستْ له، وشخصيته منذورة لمعارك فنية وجمالية، وليس للرد على ما يكتبه هؤلاء. الأسلوب الذي ارتضاه محمد بنطلحة لحياته، هو ما ارتضاه أيضا لقصيدته: أن تكون أندر من معدن نفيس، أنقى من بحيرة موغلة بين الجبال، وأكثر بداهة من الشجرة والسيف والطائر. إن الندرة، النقاء، الرسوخ، الحدة، والتحليق هي جميعُها علاماتٌ لحياةٍ متواشجةٍ مع شعرٍ انبثقَ من أعظم نارٍ تلتهب في مصهرها، لِتطوِّع الفكر، الأسطورة، التجارب، الزمن، الأحلام، فتبتدع منها أجمل المنحوتات الشعرية، القادرة على الوقوف كبرهة جمالية خالصة، في زمن الشعر الهادر باستمرار. لم يخضع محمد بنطلحة كثيرا لوطأة السياق. وفي زمن الضيق ظلتْ قصيدته مراهنة على الأساسي في الشعر. طبعا، في «نشيد البجع» نعثر على بعض الأصداء «السياسية»، ولكننا نعثر أيضا على شعرية تنزع نحو البحث عمَّا يُؤَمِّن للقصيدة فنيتها، خارج إيديولوجيا الالتزام التي كانت لها سطوة تاريخية على أدب مرحلة بكاملها. إن محمد بنطلحة سعى، وهذا يظهر حتى من جمالية عنوان ديوانه الأول، إلى الظفر بحلم شعري، أكثر مما انشغل بحلم جماعي جنى على كثير من قصائد مرحلة السبعينيات المُلتهبة. وهو الحلم الذي بلوره الشاعر أكثر في دواوينه الأربعة اللاحقة، بطريقة تكشف عن توجه الشعر نحو كثافة، بها يقيم وإليها ينتسب. التورط في الزمن، بالنسبة إلى محمد بنطلحة، هو تورط أكثر في نحت القصيدة، حتى تخرج من بين أنامل شاعرها متقنةَ الصنع، محكمة البناء، شديدة التميز، قوية الإيحاء. إن الطريق التي قطعتها قصيدة محمد بنطلحة، منذ أربعة عقود، علمتها القسوة على الذات وحكمة التقتير الشعري، التي جعلتها تتخلص من الزوائد، دون أن تفصل بداخلها بين مَرجي الشعر والنثر، اللذين كثيرا ما يلتقيان، في عبارة تنزع نحو توسيع المحتمل الشعري، معجما، إيقاعا، تخييلا وإعادة كتابة. ضمن هذا الأفق، يمكن أن نفهم عنوان الديوان الأخير للشاعر «قليلا أكثر». إنه عنوان يحيل على متخيل للكتابة وعلى استراتيجية شعرية في آن واحد. إستراتيجية توسع من مسام الشعر، عبر فعل التقتير، في الوقت الذي تجعل منه رديفا للقول الحكيم، الساخر، المتألِّم، المتفلسف، المتهكِّم، ولكن عن نبالة لا يفارقها الشاعر وهو يؤسس لما يبقى. لستُ من الذين يحتمون بشاعر مِن آخر، ولا من الذين يكتبون عن شاعرٍ ضدّ آخر. هذه الظاهرة المستفحلة، في التداول الشعري المغربي والعربي، أنأى بها عن نفسي، ليس بحثا عن لحظة يوتوبية من السلام الشعري، غير الموجود إلا في مخيلة البعض، ولكن جنوحا للأعمق في ثقافة الاعتراف، التي تنقصنا، على نحو فادح. أستحضر الآن تجربة محمد بنطلحة كبرهة جمالية خالصة وساطعة، تحتاج إلى من يبحث في شعريتها وأفقها الفني، وليس إلى من يزج بها في صراع المواقع الشعرية والخصومات الثقافية. إذا لم تجعلنا برهة الجمال نقفُ لحظة تأمل في أنفسنا وفي العالم، فما الفائدة من عقد لقاءات ومهرجانات صاخبة، نعود منها بمزيد من الحقد والعماء. إن الشاعر محمد بنطلحة يضع أمام عتبات بيوتنا هباته العظيمة، فماذا نحن فاعلون، أيها السادة، لنستحقها؟