لا أعرف تحديدا متى انفصل الأدب عن الحياة والناس، كما لا أعرف من المسؤول، الأديب أم الناقد، لكن الظاهرة اللافتة في الأدب العربي أن من يسمون بالمتخصصين في الأدب هم أول من أساء إليه، وعندما تحول بعض النقاد إلى مهندسين، همهم خلق الجداول والمربعات وإحصاء الحروف والكلمات في النص الأدبي كان ذلك بداية خروج الأدب عن الحياة وابتعاده عن المواطن. هذا واحد من أسباب كثيرة لعدم ظهور أي معركة أدبية في العالم العربي طيلة عقود منذ معارك العقاد وطه حسين والمازني، ومعركة شعراء المهجر، ثم معركة ظهور شعر التفعيلة. وقد حصلت تلك المعارك لأنها كانت تعبر عن قضايا حقيقية في المجتمع، ولأن الأدب كان جزءا من الحياة وملتقى طرق جميع المعارف، كما كتب إدوارد سعيد مرة. وفي الوقت الذي انغلق من يسمون بالمختصين في الأدب داخل الأطر المغلقة وركضوا وراء كل مدرسة، فخرجوا عن واجب الوقت وحلقوا في سماواتهم، جاء تطوير الممارسة الأدبية من خارج هذه الدائرة الضيقة. وحتى أضرب مثلا ما، أقف عند الرواية العربية، سواء في المغرب أو في غيره. لقد حصل التراكم في الكتابة الروائية العربية من كتاب ليسوا من تلك الدائرة وغير محسوبين عليها، والروايات العربية التي نحتت لنفسها مكانا في الذاكرة العربية ليست تلك التي كتبها مختصون أكاديميون في الأدب يظلون ينظرون حول قوالب الكتابة فيما هم غارقون في التقليد بحجة التجريب، بل جاءت من روائيين قادمين من اهتمامات علمية أو ثقافية مختلفة دفعوا عليهم الباب وأخذو الصف الأمامي. جاء نجيب محفوظ من علم النفس وجاء نجيب الكيلاني من الطب وعبد الرحمان منيف من الاقتصاد والطيب صالح ونجيب الغيطاني وإلياس خوري من الصحافة، وجاء آخرون من أمكنة أخرى، حنا مينة من حياة البحر والصيد وزكريا تامر من حياة السوق. وقد أظهر هؤلاء في أعمالهم الأدبية أن الأدب ليس تنظيرات سطحية تشغل الناس بالتفريعات الفقهية والمدارس النقدية وقال باختين قال بارت، بل قلم حبر يغمس رأسه في محبرة الحياة التي تكتظ بالناس الذين يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، وأظهر هؤلاء أيضا صحة قولة إدوارد سعيد، ذلك لأن الأدب الذي لا ينفتح على المعارف الأخرى ويشرب من جميع العيون لا يمكن أن يكون أدبا حقيقيا، ألم يقل القدماء إن الأدب هو أن تأخذ من كل شيء طرفا؟. ومن المثير في المغرب أنه بالرغم من كل الإنتاجات النقدية والأدبية التي كرسها المشتغلون بالأدب والتنظير الأدبي، قليلون هم الذين طبعوا بأعمالهم الساحة الأدبية، وكان لا بد من انتظار مبدعين قادمين من اهتمامات مختلفة خارج الأدب، بالمعنى الأكاديمي، لكي يمكن الحديث عن رواية مغربية على المستوى العربي. هذا هو الذي حصل مع عبد الله العروي وأحمد التوفيق القادمين من التاريخ، وبنسالم حميش القادم من الفلسفة، وبهاء الدين الطود القادم من الحقوق. وضع هؤلاء أعمالا أدبية تشد الانتباه، لأنهم تجولوا في أروقة أخرى قبل أن يدخلوا إلى رواق الأدب. إنها قضية محيرة بالفعل. وعلى الرغم من بروز أسماء وازنة في الرواية العربية جاءت من الدراسات الأدبية الأكاديمية، فإن الملاحظة المشار إليها تستحق البحث فيها وطرح تساؤلات هامة بشأنها: لماذا قدم هؤلاء أعمالا رائدة مع أنهم ليسوا أبناء»شرعيين» للمجال الأدبي، إن كان الأدب بالفعل سجلا لتقييد الهويات؟ هل الأدب جنس غير مكتف بذاته وحقيقته في احتضانه للمعارف الأخرى، أو ملتقى طرق كما قال الناقد الفلسطيني الراحل؟ هل الخلل في دارس الأدب أم في مناهج التدريس في الجامعات التي تثقل الطالب بالحديث عن المدارس النقدية وتنسيه المعارف الأخرى؟ أم أن الخلل في التكوين الثقافي لغالبية المهتمين بالأدب والذين يتصدون للكتابة فيه؟ وهل يعني هذا أن الأدب ليس علما بالمعنى الذي ساد في العقود الأخيرة وحوّل النقد الأدبي إلى هندسة وشكلانية مجانية لا تزيد في المعرفة ولا تنقص من الجهل؟. أسئلة تستحق أن يطرحها الباحثون في الحقل الأدبي وأن يجيبوا عنها.