بعد خمس عشرة سنة أو أكثر من الكد والجد و«التخنيش»، مع ما يعنيه ذلك من العنت وشظف العيش، يجد «الطالب» نفسه عاجزا عن التعامل مع أبسط نص مخطوط يعالج موضوعا حداثيا كالتاريخ والجغرافيا. لعل المغرب الأقصى من أكثر بلدان العالم الإسلامي التي أولت عناية فائقة لكتاب الله عز وجل، ولا أدل على ذلك من العدد الهائل من «الطُّلْبة» (بضم الطاء مشددة) و«الفقها» (بدون همز الكلمة) الحاملين لكتاب الله في صدورهم... ولا غرو، فحفظ الذكر الحكيم كان مطمح العديد من الأسر المغربية قديما وحديثا (أو على الأقل حتى متم النصف الأول من القرن الماضي)، إلى درجة أن ندبت ابنا أو أكثر من أبنائها لهذه الغاية النبيلة، وخصوصا في البوادي، طمعا في نيل ثواب الله عز وجل وامتثالا لحديث الرسول الكريم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه». ولبلوغ هذا المرام، أرسى المغاربة دعائم نظام تربوي خاص بمساجدهم التي أحاطوها بعناية فائقة واستنوا قوانين صارمة لنظام «المشارطة» بكل ما يعنيه من التزامات وشروط متبادلة تضمن مصالح الطرفين معا، السكان والفقيه، أقلها أن يضمن هؤلاء للفقيه أبسط مقومات العيش الكريم في مقابل أن يعلم هذا الأخير صبيانهم ودراريهم كتاب الله، ولم يخب مسعى الجانبين، حيث بارك الله في هذا التعاقد الذي أثمر عشرات الألوف من حفظة القرآن مشرقا ومغربا، شمالا وجنوبا. وبحكمي ابن المنطقة وأحد الرواد القدامى للمسيد، أو «المعمرة»، فقد عايشت عن كثب «اللوح والحناشة»، وألممت بقدر غير يسير من كتاب الله عز وجل بواسطة هاتين الوسيلتين الديداكتيكيتين الأساسيتين في التعليم العتيق واللتين بدونهما لن يتسنى للطالب «المقشقش» أن يحفظ متنه بسهولة ويسر، غير أنه مع مرور الزمن والتحاقي بالتعليم العصري والمدارس الحكومية، بدأت تتكشف لي بعض الجوانب السلبية في هذا النظام التربوي التقليدي، لا من حيث طرق التدريس والتعليم ولا من حيث قيمة «المنتوج» الذي تكونه هذه المساجد والكتاتيب القرآنية (المدخلات والمخرجات حسب المعجم التربوي الحديث). فعلى الرغم من المجهود المضني الذي يبذله «المحضري» أو «الطالب»، إلا أنه يبقى إنسانا جد محدود الثقافة والاطلاع وغير قادر على مجاراة الحياة العصرية وثقافتها ومتطلباتها، مما يحد من قدرته على الاندماج في هذه الحياة والمشاركة بفعالية في تطويرها، وإن لم يكن فعلى الأقل مجاراتها ومسايرتها والتكيف معها، وذلك أضعف الإيمان. فباستثناء إتقان المتن القرآني، حفظا وكتابة، فإن ثقافة «الخريج» تبقى دون المستوى المطلوب فكريا وعلميا وثقافيا. فبعد خمس عشرة سنة أو أكثر من الكد والجد و«التخنيش»، مع ما يعنيه ذلك من العنت وشظف العيش، يجد «الطالب» نفسه عاجزا عن التعامل مع أبسط نص مخطوط يعالج موضوعا حداثيا كالتاريخ والجغرافيا، مثلا، ناهيك عن المواد العلمية من قبيل الرياضيات والفيزياء أو العلوم الطبيعية، فهو والأمي سواء بسواء، إذ بالكاد يفهمان ما يقرآنه نظرا إلى عدم قدرتهما على التعامل مع مفردات اللغة العربية، خصوصا تلك التي لم ترد في سياق النص القرآني أو حياة المدينة المغايرة، شكلا ومضمونا، لحياة البادية. فلم يتجشم الشخص كل هذا العناء ليجد نفسه في نهاية المطاف شبه أمي لا يستطيع احترام أبسط قواعد الإعراب والقراءة السليمة، ناهيك عن التعبير بوضوح عما يحسه أو يخالجه أو كتابة رسالة واضحة الفقرات تعبر بجلاء عما يريد إبلاغه من خطاب إلى مراسليه. والأدهى والأمر أنه لا يستطيع حتى شرح ما يحفظه من آيات قرآنية، هذا إن لم يشرحها مغلوطة ويستشهد بها في غير محل ولا موضع. والحقيقة أنني عذرتهم في النهاية، فهم إنما كان هدفهم حفظ كتاب الله فحفظوه، وكان عليهم إتقان رسمه فأتقنوه، أما ما عدا ذلك فهم غير معنيين به، لتبقى الطرق العقيمة في التدريس، بفقرها المدقع، هي المسؤولة، في نهاية المطاف، عن هذا الوضع. وليست هذه هي النتيجة السلبية الوحيدة التي يمكن مؤاخذة المساجد القديمة عليها، بل إن آثارها السلبية تمتد لتصل إلى التكوين النفسي والاجتماعي للطالب والفقيه على حد سواء، الشيء الذي يعطينا منتوجا مشوها غير قادر على التكيف مع الحياة العصرية كما سبق وأن قلنا، وهذه إجمالا بعض أسباب ذلك: 1- قسوة الحياة في المسجد ولمدة طويلة جدا. وإن كانت هذه الفترة تعلم الصبر والجلد، إلا أنها، بالمقابل، ترهق أعصاب المتعلم وتشل تفكيره، هذا إن لم تصبه بالعجز عن استعمال عقله في البرهنة المنطقية أو تحليل مشكل ما تحليلا ينبني على الاستدلال والاستقراء واستخلاص النتائج المطلوبة. فطول معاشرة النص المقدس تنأى به عن أي خروج عن المألوف وتكوين رأي مستقل، وما ذلك إلا مخافة الوقوع في الزلل. هذا يدفعه، أخيرا، إلى نبذ الجديد غير المألوف لديه والتشبث بالقديم المعروف.. وكفى الله المؤمنين القتال. 2- بروز ثقافة الانتهازية لدى العديد منهم، خصوصا في ما يتعلق بالنصب والاحتيال على السذج من الناس، ولاسيما النساء، بدعوى القدرة على الإتيان بالخوارق، سواء تعلق الأمر بالتطبيب والاستشفاء أو القدرة على جعل الزوج خاتما في الأصبع، إلى غير ذلك مما يدخل، صراحة، في خانة الدجل والشعوذة. 3- جشعهم وطمعهم يدفعهم إلى التكالب على ملذات الحياة والسعي إلى الحصول عليها بشتى الطرق الملتوية نظرا إلى عدم قدرتهم على الحصول عليها بالطرق الشريفة، بسبب انعدام وسائل الكسب المادي وانسداد آفاق الغنى والثروة في وجوههم. أما حبهم لما لذ وطاب من المأكولات والمشروبات فحدث ولا حرج، وما ذلك إلا لتلك العادة السيئة التي جعلت منهم نجوم المجالس وأقنعتهم أنهم أولى من غيرهم بالتنعم، لا كرما من المحسنين بل لكونهم متميزين عن العامة والأميين، أو «قبابن» كما يسمونهم. هذه الخصلة المذمومة دفعت بالكثير منهم إلى تبني سلوك النفاق والمداهنة للحكام وذوي النفوذ (الأغنياء ورجال السلطة على سبيل المثال)، والتقرب إليهم. 4- وكخاتمة، نقول إن الأمور تتطلب وقفة جدية في طرق التعليم بمساجد البادية المغربية وزواياها قصد المزاوجة بين حفظ القرآن وإتقان كتابته وبين تعلم اللغة العربية، أي الأداة التي سيتمكن بها الطالب في نهاية المطاف، لا من التعامل مع النص القرآني وحسب بل حتى مع وسائل التثقيف العصرية من كتب ومجلات وجرائد، وذلك حتى يتعودوا على التعامل مع نصوص تختلف عما ألفوه وتدريبهم على الكتابة الأدبية حتى يستطيعوا، مستقبلا، محو الأمية على الأقل، ولم لا تثقيف أنفسهم على غرار ما فعله العديد من العصاميين ومن مختلف الجنسيات، خصوصا وهم يتوفرون على كنز لا يقدر بثمن: كتاب الله محفوظا في الصدور، لأن الأمور إذا استمرت على هذا الحال فإننا سنبقى نكوّن ببغاوات تردد، بلا كلل أو ملل، المتن القرآني دون القدرة على النفاذ إلى ما يختزنه من معان سامية. لكن ورغم كل ما ذكرناه، فإن فضل هؤلاء «الطلبة والفقها» على القرآن، والدين بصفة عامة، فضل لا يقدر بثمن ولا يكاد يضاهيه شيء. ويكفيهم فخرا أنهم صانوا كتاب الله منذ زمن لم يكن الكتاب فيه بالانتشار الذي نعرفه اليوم، ثم هم علموه لمن أتى بعدهم في ظروف لا يعلمها إلا الله، خصوصا في سالف الأزمان حيث الحروب والفقر والمجاعة، غير عابئين لا بهذه ولا بتلك. ومخطئ من يعتقد أنه بانتشار المصاحف وعلى أحدث طراز في الطباعة والخطوط، سنحفظ القرآن من الضياع والتشويه والتحريف، إذ لو كان ذلك يجدي نفعا لحفظت الكتب السماوية الأخرى، خصوصا وكلنا يعلم ما يقوم به الأعداء في سبيل تحريف المصحف الكريم. وإذا كان الله عز وجل قد تكفل بحفظه، فإن أحد هذه الأوجه التي حفظ بها كتابه هو نقشه في صدور هؤلاء الرجال الأفذاذ إلى يوم الدين.