جميل أن تمد بعض الجمعيات الثقافية الجسور إلى الآخر، بتعدد روافده الثقافية، لخلق ذاك الجدل المفتقد بين الهوية الخاصة وامتداداتها. لكن أن يتحول الأمر إلى هوس ملازم، فتلك هي المسألة التي تستطيب التطلع ولو في المستنقع؛ فكثيرة هي الملتقيات «العالمية» التي تطلب الدعم من كل الجهات، دون التساؤل عن العلة والملة إلى حد أن هذه الملتقيات تحولت إلى أشكال احتفالية فيها الطايح كثر من النايض بميزانية بإمكانها أن تمتص بعض الأزمات الصغيرة كنشر أكبر عدد من الكتب، لتخليص الكتاب من مخطوطات مركونة في ظل أزمة النشر، وتأثيث قاعات ثقافية جرداء مهترئة في غياب صلابة البنية والأداة.. كل ذلك للمساهمة في تفعيل هذا الثقافي في شمول الوطن، وفي شمول الثقافة أيضا. المبدع بهذا البلد، كلما تقدم في إصدار أغلفة عديدة، يحس بأنه ذو أجنحة وامتداد، وينبغي أن يكون له مريدون يطبلون له على غرار المعتاد، ويطأطئون له الرأس متى تكلم أو شهق... من هنا، يحصل الالتباس حول هذه العالمية: هل تعني أن يكون الكاتب مقروءا في ثقافات ومرجعيات أخرى من خلال الإقامة في الوسائط أم أن تكون له لمسة خاصة في رافد الكتابة كحقل إنساني يغتني بالخصوصيات والإضافات باعتبارها تسند العقل والقيم الإنسانية الجوهرية؟ وكثيرة هي الأوهام التي تغذي وهم العالمية كمكر الجوائز الذي يستدرج الأسماء، ليجعلها متطلعة باستمرار إلى ذاك الطعم الملغوم بمعايير خالية تماما من سلطة الإبداع. وكذا أفعال المؤسسات الدولية الساعية إلى تغذية الإيديولوجيا، انطلاقا من ثنائية مقنعة على الدوام : المركز والهامش الذي عليه أن يبقى تابعا، ولو على أرض العقل والثقافة. ولا تفوتني هنا الفرصة دون أن أكبر في بعض الأسماء تمنعها وإقامتها في ماء النصوص الذي يصر ألا يتحول إلى نفط أو زيت أو خرقة حيض. يمكن لهذه العالمية أن تولد وتتمظهر كأبعاد إنسانية ورمزية في تقطيعات إبداعية موغلة في محلياتها وأتربتها العالقة؛ فالتصوير الفني لبقع أرضية تزخر بممارسات عيش لها أساليبها ودهاليزها، غرابتها وخصوصيتها... كلها أشكال تودع في اللغة عبر تفاعل ذات، لترقب العالم من نقطة ما. ومتى كانت رؤيا المبدع موجهة وتنوء بالثقل الإنساني، كان الإبداع أعمق وأبقى، وبإمكانه أن يعبر المرجعيات والثقافات بشكل لزج دون تخندق مقنع أو ثكنة ثقافية. لا داعي، هنا، إلى أن أستحضر أعمال محمود درويش الذي جعل القضية الفلسطينية في الشعر وبه قضية إنسانية بين الضيق والحرية، بين الغصب والحق في الوجود، وأعمال نجيب محفوظ المنتصرة لحرارة الحارات وجراح الظلال، والشاعر أحمد المجاطي الذي أصدر ديوانا واحدا يسع، في فروسيته، العالم... إن محليتنا، بواقعها وسياقاتها، تختلف عن محليات أخرى، وهو ما يقتضي المساهمة في إعطاء الأشياء معنى في الإبداع كتجل ما للحياة؛ قصد البحث عن ملامح حياة مغربية (إنسانيا) في أدب يتنطع عن هوائه وأصوله الصامتة التي لا لسان لها. كما أن الأدباء، وهم أولى بذلك، مطالبون بتقديم وتجذير ما يكتبونه في الواقع والحياة. وبذلك، قد تتحول العالمية إلى سقف مفارق. وواهم من يعيش تحت ذلك، من خلال «ترتيل» في قاعة مكيفة، أو تهافت وراء ترجمة أو صداقة تكسبية.. حين نسعى إلى فعل ثقافي بتمدده وتحرره أيضا من دعوات تقول بالنخبوية ولاجدوى هذا الثقافي، فإنما نسعى إلى القيام داخل الكينونة بصيغتها الفردية والجماعية، لاستنهاض الإدراك وتحرير الملكات ووضعها على الطريق التي تحتاج عمليات تحرير باستمرار، كما يقول عبد الله العروي في شأن الحرية الرديفة للثقافة؛ فكلتاهما في اشتغال مستمر، للذهاب بالفكرة إلى أقصاها، لعقلنة الأفعال بين مؤسسات راعية وضامنة لذلك؛ أو، إذا اختل الأمر، تكون الإقامة في الضيق غير الرحيم ..