منذ تأسست للعقل قواعد منطق لضبطه وتسهيل مهام تشغيله لإنتاج معرفة مجردة وواقعية (= موضوعية) في نفس الوقت، وذلك كان في اليونان خاصة، وعلى يد المعلم الأول، كان من بين أهم قواعده تلك أنه «لا مقارنة حيث الاختلاف»، والمقارنة هي صيغة من صيغ إنتاج المعارف لا شك. هذه القاعدة الأولية في تاريخ علم المنطق «الصوري»، وقبل أن يتطور في العصر الوسيط نحو التجريب (ابن تيمية) وفي الحديث نحو الجدل (هيجل)، لا يحترمها، وربما لا يستوعبها، بعض الكتاب المغاربة والعرب، ومن ذلك مقارنة بعضهم بين «ثورات» الربيع العربي وتعثراتها... وتجربة «الثورة» الفرنسية... التي امتدت في الزمن طويلا قبل أن تستقر على الديمقراطية البرلمانية في عام (1875). الفروق التاريخية (اجتماعية، سياسية، ثقافية،...) لا حصر لعددها، نقف عند أهمها الحاسم: 1) لم يكن الطابع الرئيس لزمن العالم في القرن ال18 هو سيادة الرأسمالية، وبالتالي توسعها الاستعماري نحو الأسواق والمجتمعات والدول... وتدخلها في توجيه جميع أحداثها. كانت فرنسا، دولة ومجتمعا، حرة مستقلة وذات سيادة، وغير مهددة باستعمار (وهو غير الاحتلال). في حين نجد أن أوضاعنا العربية القائمة، ومنذ قرنين على الأقل، يستحيل فهمها وتحليلها، ومن ثم الفصل فيها، دون استحضار الاستعمار، مباشرا أو جديدا، وأدواته المالية والتجارية والثقافية... وأدواته من أتباعه الوسطاء، كما من ضحايا مدرسته وجامعته وإعلامه ودور نشره وجوائزه السمينة والمسمومة... إلخ. الذي لا يستحضر الاستعمار في تحليل أوضاعنا، يستبطنه بالضرورة. إذن، ينطق بلسانه ويعبر عن مصالحه، بما في ذلك مواقفه وحروبه ضدا على «دولنا»، وليس فقط على إداراتها، ووصف بعضها، دون جميعها (؟!)، ب»الاستبداد» فقط لرهانها على القطاع العام وثماره الاجتماعية (صناديق الدعم / مجانية التعليم والصحة...) ولا تهمه سوى سيرة القائمين على إداراتها الفاسدة (البيروقراطية)، والدليل احتضان (الاستعمار) للنمط التابع له والمنقاد ل»نصائحه» وتعليماته بل وأوامره (مشيخات الخليج جميعا، مثلا). خارج التاريخ (= أفعال الإنسان في الزمن) والجغرافيا (طبيعية، اقتصادية، بشرية،...) لا يوجد سوى الغيب (الله) أو التفكير الميتافيزيقي... 2) لم تكن الثورة الفرنسية مفاجئة أو بدون مقدمات تنبئ عنها. سنتجاوز هنا ما هو معروف من ثورات معرفية علمية وتقنية من غاليلو إلى نيوتن وديكارت، وكذلك عن الإصلاح الديني وما أدراك، وعن التنوير والمنورين.. ونقتصر فقط على ما هو سياسي من الممهدات... متجاوزين بوسييه وميكيافيل... فانطلاقا من منجزات القرن ال14 في البلاد الإسكندنافية، ثم «الماكنا كارطا» في إنجلترا، واستقلال ودستور الولاياتالمتحدة وما بين كل ذلك من تطور للفكر السياسي ومن وقائع اقتصادية-اجتماعية بقيادة طبقة جديدة تجارية وصناعية... لا عهد للبشرية بها (؟!) لقد كانت الإنسانية بصدد مجهول، واختراع جديد لوجودها.. «ثورة». أما نحن فبصدد برنامج إصلاحي معلوم الملامح: تحرر، وحدة، تنمية... وانتقال نحو الديمقراطية. 3) ثم ما لهذه المقارنة التي تقتصر على الشكل، «خروج الجماهير» إلى الشوارع، دون الاهتمام ببرنامج الخروج وأهدافه وقياداته (؟) إن الجماهير قد تخرج لخدمة أهداف هي غير «جماهيرية»، وذلك بفعل التغليط الإيديولوجي مثلا، وإلا فكيف نحكم على: 1 - ملايين «المؤمنين» الأوربيين الذين استقدموا نحو المشرق العربي في ما سمي ب»الحروب الصليبية»؛ 2 - الحركات الشعبوية والفوضوية والانقلابية... في تاريخ جميع الشعوب؛ 3 - علاقة «الشعبين» الألماني والإيطالي بقيادتهما العنصرية والهمجية... «النازية» و»الفاشية»... إلخ. وهل نسينا تجييش فرانكو والمخزن ل»جماهير» الشعب المغربي ضدا على الجمهورية الإسبانية، وذلك تحت غائلة جوعين: مادي وديني (قالوا لهم إن فرانكو مسلم بل وحامي الإسلام، والجمهورية ملحدة؟!). من المؤسف مقارنة «ثورة» تاريخية، إنسانية، شاملة.. حولت العالم من عصر إلى عصر.. بنضالات هي في أقصى مطالبها وممتلكاتها الموضوعية: تحررية، توحيدية، تنموية وديمقراطية... وللأسف أيضا، فهي لم تكن كذلك بحال من الأحوال، لا في إرادات وقودها من «الجماهير» ولا في وعي «قياداتها» المشكوك جدا في مطامحها (= مطامعها) وفي ارتباطاتها أو توافقاتها «الخارجية»، بما في ذلك العريق والمنظم منها (= الإخوان) مثلا. 4) في الحالة العينية، فلقد كان المطلوب هو «الانتقال الديمقراطي» لا الديمقراطية بالأحرى، والحال أن هذا يتطلب التدرج والتوافق... بينما لاحظنا أن «الشعبوية» والفوضوية المدبرة أو العفوية... دفعت في اتجاه الفرز والإقصاء... والذي كان مآله الحتمي الإخفاق وإضاعة الوقت والجهد والأرواح... لنعود بعد ذلك القهقرى إلى نقطة الانطلاق «الحتمية»، أي الحاجة إلى التوافقات على جميع المستويات (مصر، تونس، اليمن،...) والبقية ملتحقة لا ريب، وإلا فالفتنة والقتل والخراب... 5) قرائن التدخل الخارجي الاصطناعي.. لا حصر لعددها وأمثلتها، أبرزها، فرنسا في الحالة الليبية، والخليجية في سوريا، فضلا عن القناتين المعروفتين وغيرهما كثير، واللتين هما لسان القواعد العسكرية الأمريكيةالمحتلة للبلدين.. أكثر منهما لسان «حكامهما» أنفسهم. 6) في الحالتين الليبية واليمنية، مثلا، فإن المطروح أساسا هو تأسيس إدارة الدولة أو إعادة تأسيسها (إذن، مجتمع مدني) في مقابل تفتت وتسيب وفوضى المجتمع التقليدي-القبلي... نصفه تقريبا (النساء) معتقل في المنازل والخرافات. لو كان الأمر في اليمن، مثلا، يتصل بثورة حقا (حينئذ وليس الآن) لتخلصوا مما يقيد أيديهم ويحجر وعيهم ولا يحتاجون معه إلى تظاهر: القات للذكور والشادور والعزل للنساء حتى في التظاهر (؟!) أما ليبيا، فلقد كان عدوانا عسكريا-تخريبيا (400 مليار دولار خسائر الهدم) استعمار تقليدي أبشع بما لا يقاس من الاستعمار الإيطالي السابق... ونتائجه الإجرامية نعاينها يوميا وبألم لا مزيد عليه، ولقد كان ذلك هو الهدف من «الثورة» الأطلسية - الخليجية الانتقامية من ليبيا. (وأما مصر، فسيصدر عن «ربيعها» قريبا كتاب مفصل في موضوع حبكتها). عبد الصمد بلكبير