استثمارات ضخمة.. شركة الطرق السيارة بالمغرب تبدأ أشغال توسيع عقدتي عين حرودة وسيدي معروف    تركيا تعلق الدراسة في عدد من الولايات بسبب العواصف الثلجية        الرئيس الأسبق للرجاء أوزال بسجن "عكاشة" بسبب شيك بالملايير    الحكم على الفتاة قاتلة الطالب أنور بطنجة ب15 سنة سجنا بعد سنتين عن وقوع الحادث    نادي الدفاع الحسني الجديدة لكرة الطائرة بالجديدة منتشه بانجازاته المتميزة خلال السنوات الاخيرة    المؤبد والسجن النافذ لمرتكبي جريمة قتل شاب في حي المطار بالجديدة    حيازة حيوانات مهددة بالانقراض والاتجار فيها يجر شخصين للاعتقال بالناظور    الرئيس الأمريكي يعلن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في لبنان    وفد عسكري مغربي يزور حاملة الطائرات الأمريكية 'هاري ترومان' في عرض ساحل الحسيمة    تراجع مفرغات الصيد بميناء طنجة بنسبة 29% وانخفاض القيمة التجارية إلى 134 مليون درهم    الملك محمد السادس يدعو إلى حلول عملية لوقف النار ودعم الفلسطينيين إنسانياً وسياسياً    نقص حاد في دواء السل بمدينة طنجة يثير قلق المرضى والأطر الصحية    سبتة ترفض مقترحا لحزب "فوكس" يستهدف المهاجرين والقاصرين    فتح تحقيق في محاولة تصفية مدير مستشفى سانية الرمل تطوان    اتحاد طنجة لكرة القدم الشاطئية يتأهل إلى مرحلة البلاي أوف من البطولة الوطنية    الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل سيدخل حيز التنفيذ فجر الأربعاء    عصبة الأبطال.. الجيش الملكي يهزم الرجاء بعقر داره في افتتاح مباريات دور المجموعات    العلمانية والإسلام.. هل ضرب وزير الأوقاف التوازن الذي لطالما كان ميزة استثنائية للمغرب    المغرب يستعد لإطلاق عملة رقمية وطنية لتعزيز الابتكار المالي وضمان الاستقرار الاقتصادي    لجنة الحماية الاجتماعية تجتمع بالرباط        بنسعيد: "تيك توك" توافق على فتح حوار بخصوص المحتوى مع المغرب        "نعطيو الكلمة للطفل" شعار احتفالية بوزان باليوم العالمي للطفل    سعد لمجرد يصدر أغنيته الهندية الجديدة «هوما دول»    لحظة ملكية دافئة في شوارع باريس        دين الخزينة يبلغ 1.071,5 مليار درهم بارتفاع 7,2 في المائة    معاملات "الفوسفاط" 69 مليار درهم    المغرب جزء منها.. زعيم المعارضة بإسرائيل يعرض خطته لإنهاء الحرب في غزة ولبنان    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    في حلقة اليوم من برنامج "مدارات" : عبد المجيد بن جلون : رائد الأدب القصصي والسيرة الروائية في الثقافة المغربية الحديثة    نزاع بالمحطة الطرقية بابن جرير ينتهي باعتقال 6 أشخاص بينهم قاصر    الجديدة مهرجان دكالة في دورته 16 يحتفي بالثقافة الفرنسية    التوفيق: قلت لوزير الداخلية الفرنسي إننا "علمانيون" والمغرب دائما مع الاعتدال والحرية    مسرح البدوي يواصل جولته بمسرحية "في انتظار القطار"    شيرين اللجمي تطلق أولى أغانيها باللهجة المغربية    اللحوم المستوردة تُحدث تراجعا طفيفا على الأسعار    الأمم المتحدة.. انتخاب هلال رئيسا للمؤتمر السادس لإنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط    برقية شكر من الملك محمد السادس إلى رئيس بنما على إثر قرار بلاده بخصوص القضية الوطنية الأولى للمملكة    اتحاد طنجة يكشف عن مداخيل مباراة "ديربي الشمال"        مواجهة مغربية بين الرجاء والجيش الملكي في دور مجموعات دوري أبطال أفريقيا    حوار مع جني : لقاء !    غوارديولا قبل مواجهة فينورد: "أنا لا أستسلم ولدي شعور أننا سنحقق نتيجة إيجابية"    الدولار يرتفع بعد تعهد ترامب بفرض رسوم جمركية على المكسيك وكندا والصين    المناظرة الوطنية الثانية للفنون التشكيلية والبصرية تبلور أهدافها    تزايد معدلات اكتئاب ما بعد الولادة بالولايات المتحدة خلال العقد الماضي    الرباط.. انطلاق الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية    منظمة الصحة: التعرض للضوضاء يصيب الإنسان بأمراض مزمنة    تدابير للتخلص من الرطوبة في السيارة خلال فصل الشتاء        لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الصحراء... والعودة إلى الشعب رب ضارة نافعة» 3/2

الإدارة السياسية للدولة، تتوهم أنها بانتهاج سياسة حسن النية، وفتح الحدود والأبواب، والتحالف مع الرأسمالية العالمية بدون حدود، ومسايرتها بدون قيود، ومسالمة الاستعمار الصهيوني والتطبيع معه... الخ تستطيع استئمانهم واستدرار تعاطفهم وتأييدهم، والحال أن الاستعمار الغربي لا يرى سوى مصالحه، وعندما تعطيه بدون شروط، يعتبر ذلك هدية لا تتطلب مقابلا يكافؤها، يستدرجك حتى تدخل معه اللعبة. وعندئذ يفاجؤك بتغيير قواعدها، وحين تصير مكبلا لأسواقه ولإستراتيجيته.. يتعامل معك كأسير أو حتى كعبد، أقصى ما يتنازل لك عنه، هو منحةُ تركك حيا منتجا لقوة العمل الرخيصة وللمخدرات وللعاهرات.. ومستهلكا لسلعه كلها بما فيها خاصة... «الثقافة».. إلى درجة المسخ، حين نلاحظ مثلا، كيف أن هواة الكرة في شبابنا، ينقسمون انقسام الإسبان بين البارصا ومدريد، فيا للمأساة ويا للمهزلة (؟!)
5 -المصالحة وحقائق التاريخ:
بمناسبة «مشروع الانتقال الديمقراطي» الذي لم ينجز بعد والمتعثر، وحتى المتقهقر أحيانا، دشن المغاربة شرطا من شروطه، أقصد «مشروع الإنصاف والمصالحة» الذي انطلق مائلا عن استهداف «الحقيقة» التي لا إمكان لإنصاف ولا لمصالحة بدونها.
ولعل أهم ذلك وأخطره، هو ملف الصحراء الذي لم يفتح أصلا. حيث اقتصرت المراجعة على قضايا الحريات وحقوق الإنسان أكثر منها على حقوق الوطن.
وفي هذا الصدد يجدر بنا التذكير بالأخطاء الجسيمة، وأحيانا الفظيعة، التي اقترفت من قبل إدارة الدولة، خاصة في موضوع تحرير الصحراء واستكمال وحدتها مع بقية أجزاء الوطن الأصل.
1- لقد احتل إقليم الصحراء الغربية تاريخيا قبل الدخول الرسمي للحمايتين الفرنسية والاسبانية بأكثر من ثلاثين عاما. وخلال ذلك أهملت الإدارة المركزية للدولة، واجب التعبئة الرسمية والشعبية لمقاومة المحتل الاسباني. وترك بذلك الصحراويون المغاربة في المنطقة لمصيرهم الاستعماري دون تضامن.
والمثير في الأمر، أن يتم التحرك العسكري المقاوم، من قبل أسرة ماء العينين نحو الشمال (مراكش) مع بداية الدخول الحمائي الفرنسي، ولا يهتم بتحرير المنطقة الصحراوية نفسها (؟!).
2- شكلت مفاوضات الاستقلال مناسبة لحدثين خطيرين ومترابطين:
أ-استقلال منقوص على جميع المستويات، بما في ذلك السيادية منها، غير أن أسوأه، كان التآمر على جيش التحرير المغربي بحله، ومن تم التخلي عن: تحرير المناطق الشرقية والصحراء الغربية وموريتانيا وعن جبهة التحرير الجزائرية عمليا... وذلك بسبب ما نتج عن ذلك «الاستقلال» المغربي من مضاعفة الأعباء على جيشها وشعبها. ومن تم تأخير الاستقلال الجزائري.
ب-الانقلاب على التحالف الوطني بين إدارتي الدولة والمجتمع. والذي انعقد مع بيان 11 يناير 1944، والذي سمح بتحقيق الكثير، بما في ذلك الاستقلال نفسه. والعودة مجددا إلى شروط بداية القرن، وتجديد حماية 1912 في الشروط المستجدة بين الإدارة المغربية وفرنسا، وعلى حساب الحركة الوطنية واختراقها وتفكيكها وقمعها...
لقد كان المغرب، البلد الوحيد في مستعمرات العالم المستقلة، الذي لم تتحمل فيه حركة تحريره مسؤولية إدارة استقلاله، بل وجدنا عملاء فرنسا وتلامذتها، هم من تحمل المسؤولية في العديد من إدارات الدولة الوليد، وبالطبع فإنه لم يحاسب أحد على جرائمه خلال مرحلة الاستعمار، واعتبر الاستقلال لذلك استمرارا لمرحلة الاستعمار (؟!)
إعلامنا كان خارج التغطية، الخريطة الرسمية للدولة لا صحراء فيها، وفي المدرسة امتحنا على أن مساحة المغرب هي 540 ألف كلم2، ولم يخبرنا أحد عن حدود الوطن في الشعار الثلاثي للمملكة، وعندما طرحنا القضية في الأمم المتحدة، وضعناها بين أيدي اللجنة الرابعة «تصفية الاستعمار» لا قضية استكمال للوحدة الترابية المنقوصة للوطن.
3- رفض الزعيم علال الفاسي الاعتراف بالجنين المشوه. ومن قبيل الضغط، تأخر عن الرجوع إلى الوطن، تعبيرا منه، عن يقظة الضمير الوطني، ووسط الضوضاء، المصطنعة في أكثرها، لم ينصت إلى صوته الاستنكاري والاحتجاجي.. أحد، واضطر للالتحاق بطنجة أولا، والعمل على الطرح الرسمي للموضوع. في جريدة «صحراؤنا» ولعله كان نشازا رحمه الله. وها هي ذي التطورات تؤكد الاعتبار لخطابه ولمواقفه..
4- بالموازاة لخطابه، انتفض جزء من جيش التحرير، ورفض المساومة على وطنيته ونضاليته بالانخراط في الجيش الملكي (قام على إنجازه المحمدي والخطيب) ونزل لاستكمال المهمة التي أدى القسم عليها، استكمال تحرير التراب الوطني في الصحراء وموريتانيا، ومن تم التنسيق مع إخوانه في الجزائر لاستكمال تحرير الأجزاء الشرقية من الوطن.
بدعوى التنسيق مع الإدارة الرسمية للدولة، وتحت تبرير تلافي «ابتزاز» المواطنين في تموين جيش التحرير، عينت الدولة «الدليمي» وسيطا وقناة تموين، وبذلك ضمنت الإدارة عزل السمكة (= جيش تحرير الجنوب) عن مائها (الشعب). واستفردت به الإدارة، وسهل خنقه لذلك لاحقا. عندما طوقه الجيشان الاستعماريان الفرنسي والاسباني في عملية «الكماشة»، والجيش الملكي «يراقب» والشعب المغربي مستغفل...
5- خاضت الحكومة التقدمية برئاسة الزعيم عبد الله إبراهيم، مفاوضات استكمال التحرير مع اسبانيا، وكانت على وشك النجاح كما هو مفترض، غير أن القلاقل المصطنعة التي أحدثها أذناب المستعمر من جهة (عدي وبه مثلا) وردود الفعل الفوضوية والشعبوية الديمقراطية من جهة ثانية لبعض المقاومين... والإشارات التي وصلته (=الاستعمار) من بعض أطراف الصراع، بأن عمر الحكومة قصير، بل ربما طُلب منه تأجيل الحل معها (=الحكومة التقدمية) حتى لا تستقوي به في الصراع الداخلي مع خصومها... جميع ذلك وغيره، أقنع فرانكو بأن الجبهة الوطنية الداخلية مفككة، بالتالي ضعيفة، فأحجم، وجرجرنا ومازلنا نجرجر المعضلة حتى اليوم، نتيجة بؤس الوعي الوطني و/أو انحطاطه/ و/أو قصوره... وذلك بتقديم قضايا أخرى على حسابه.
6- في العام 1969، وعلى إثر إعلان زيارة لوزير الخارجية الاسباني (لويير برافو)، بادرت قيادة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب إلى الإعلان عن قرارين مناهضين للزيارة:
-إضراب وطني للقطاع الطلابي احتجاجا على الزيارة وإطلاق مظاهرات سياسية. لأول مرة بعد زمن، خارج جدران الجامعة نحو المجتمع.
كان ذلك مؤشرا لوعي سياسي وطني جديد. ومن قبل من كانوا يعتبرون أنفسهم طليعة تاكتيكية للمرحلة. أمام التجميد والتهميش المدبر الذي لحق بالحركة النقابية العمالية (الاتحاد المغربي للشغل).
7- تزامن ذلك، وربما ارتبط بالأحرى، ببروز (ولا أقول نشأة) ما سمي لاحقا باليسار الجديد، كانت نواته الأصل ما سمي لاحقا بحركة 23 مارس. ولم تكن حينئذ مع شقيقتها في يسار حزب التحرر والاشتراكية. قد أعلنت عن نفسها مستقلة في الحركة الطلابية باسم «الجبهة»، كانت حركة سياسية لا طلابية فقط، ولذلك كانت قضية الصحراء في الصلب عن اهتمامها منذ المنطلق.
ليست غايتي هنا الادعاء بأن مواقف اليسار «الجديد» حول هذا الموضوع، كانت كلها وطنية، بل على العكس، لقد أساء إليها، وذلك خاصة بسبب وعيه المشوب بعدمية وطنية، لطالما شوشت على ممارسات الكثيرين من قادة اليسار الماركسي في العالم ممن يرجحون، وفي جميع الحالات، الوعي «الأممي» واستراتيجيته، على الوعي الوطني أو بالأحرى على حسابه. (وهو بعض من الآثار الانثروبولوجية للوعي الديني اليهودي على الماركسية).
غير أنني أدعي، أن السبق لإثارة الموضوع مجددا، وبوعي نضالي وطني جديد، كان من فضائل اليسار المنعوت بالجديد، ومنهم مر إلى الإخوة الصحراويين الذين بادروا إلى التظاهر في مدينتي العيون (1969) وطانطان (1971) والذي قمع بعنف شديد من قبل أوفقير، وكانت تلك الانطلاقة الجديدة، مأساة مازلنا نعاني منها دولة وشعبا.
أما الشهيد المختطف بلبصير، فإن الضمير الوطني الحقوقي، لم يبدأ في الانتباه إلى قضيته والإثارة الرمزية لشخصه، سوى مؤخرا وباحتشام حتى الآن (؟!).
لقد نبه اليسار في حينه، إلى الأخطار المحدقة بالصحراء من قبل الإمبريالية الأمريكية، وأنها تستهدف، تواطؤا مع فرانكو أو بالضغط عليه تأسيس دويلة عميلة في الصحراء تكون أداتها لمنافسة الوجود الفرنسي، وأيضا وبالأحرى لضبط حياة ومسار شمال أفريقيا وغربها جميعا. نظير صنيعها في المشرق العربي، حيث وضعت دويلة خنجرا في خصر كل دولة حقيقية قائمة (لبنان لسوريا والكويت للعراق وقطر للسعودية وإسرائيل بالطبع لمصر وللجميع).
كان الجواب الوطني الثوري بالنسبة لليسار، هو قلب ظهر المجن على الإستراتيجية الأمريكية، وذلك بإطلاق العمل الثوري من هنالك بالذات، في شكل بؤرة ثورية (الغيفارية بتنظير دوبري) تكون منطلقا لتحرير المنطقة بكاملها.
كان ثمة في اليسار، من لا يرى ذلك في حينه، أقصد التيار الفلاحي الذي يدعو إلى تطويق المدن من قبل البوادي (الماوية) والتيار التقليدي اللينيني الذي يعتمد نظرية الطليعة والحزب الثوري واعتماد المدن والطبقة العاملة وتعديد أشكال النضال السلمي والمدني أولا...الخ وهذا الأخير هو الذي نجح كأغلبية في 23 مارس خاصة.
غير أن طرح القضية والانتباه والتنبيه إلى تهديداتها المحدقة وبث الوعي بها في صفوف الطلبة الصحراويين... كانت فضيلة اليسار لهذه المرحلة دون منازع. وعوض أن تبادر إدارة الدولة إلى الاستجابة لها، والتجاوب مع من يطرحها، وتوظيفه في سياق العمل الملموس الميداني والسياسي والإعلامي... في جبهتها... صعدت الصراع معه (=اليسار) وهولت من خطره، وخلطت في القمع بين مكوناته، واصطنعت أسطورة تآمره على النظام، ومارست عليه درجة من العنف الهمجي قل نظيرها في العالم المعاصر.
بكل ذلك، يكون ضعف الوعي الوطني لدى الإدارة، قد ضيع على الوطن فرصة للتعبئة وللوحدة الوطنية، ضدا على الامبريالية الاسبانية، وعندما تمت المسيرة الخضراء، كان اليسار في السجون أو في السرية أو المنفى.. مكلوما ومكموما ومكبلا... بالتالي محرجا غير حر، وتأخرت لذلك استجابته الوطنية، ومن تم استثمار إمكانياته الفكرية والسياسية والإعلامية والتعبوية والدبلوماسية... في المعركة.
لعل بعض من كان في إدارة الحكم آنئذ، كان يفضل أن يحتكر موضوع التحرير لنفسه، وأن يعبئ الجماهير، منفردا بها، لتحقيق ذلك كامتياز له.
أو لعلها الأحداث وتعاورها السريع، هو ما فرض ذلك، خاصة وقد نزلت أوربا بثقلها في الصراع لصالحنا وضدا على الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة.
ولقد تأكد ويتأكد، أن القضايا ذات الطبيعة الوطنية تشترط لحلها الإجماع، وكل إخلال بشرائطه ومقتضياته، ينتهي موضوعيا وعمليا، إلى إخلال بها هي نفسها، وهذا ما حدث.
8- تمهيدا لحدث المسيرة الشعبية الخضراء، وسعيا لتماسك الجبهة الداخلية المفككة ستبادر إدارة الدولة تدريجيا، لتنفيس الأجواء، وتخفيف التوتر، وتوسيع هوامش الحريات خاصة، بإطلاق سراح المعتقلين الاتحاديين. ومن تم السماح لصحافتهم بالصدور مجددا وتأسيس الكنفدرالية...
عطب هذه المبادرة ونواقصها أنها:
أ- لم تشمل المعتقلين الاتحاديين جميعهم، ولم تشمل اليسار، بل تضاعف قمعه ووقع الإجهاز على المنظمة الطلابية العتيدة بحلها.
ب- ضمنيا، تمت العملية في صيغة مساومة غير مقبولة مبدئيا، ذلك لأنه في السياق، ظهر وكأن الحركة التقدمية ستدعم الحكم في موضوع الصحراء، في مقابل تدشين ما سمي حينها بالمسلسل الديمقراطي (ميثاق 1976 الجماعي والانتخابات). وكان الحق مع ع. الله إبراهيم عندما لاحظ الجدل السالب لصيغة الارتباط تلك بين القضيتين والمبدئين (الوطنية والديمقراطية) والتي لا يجوز بحال المساومة بينهما فكلتاهما مبدئيتان.
ت-لم يقع إشراك المعارضة في تقرير وتدبير مرحلة ما قبل المسيرة. إلا في حدود ضيقة جدا، وتشاورية في الأقصى.
مع ذلك، فلقد كانت الافتتاحية الشهيرة للمرحوم الشهيد عمر «فلتكن المسيرة» استجابة إيجابية لإحراج حكومي، لم يكن مقبولا بحال. ولولا ذلك الموقف الوطني والمبدئي السامي للاتحاد، لأخذت الأحداث مجرى آخر أقل حماسا وأقل مردودية...
غير أن عمر، نبه في حينه، وفي العديد من الافتتاحيات، إلى ثلاث قضايا نعاني اليوم من العواقب السالبة لعدم التجاوب معها:
1- إن مغرب 75 ليس هو مغرب 55. ولذلك فإن طريقة تدبير مغرب الاستقلال، لا تصلح لتدبير مغرب استكمال التحرير الوطني والوحدة الترابية.
2- للصحراء جغرافياُ، وللصحراويين أنثروبولوجيا، خصوصيات يجب مراعاتها في سياستهم (القبلية. الترحال...) ولذلك فإنه لا يمكن حكمهم بنفس منطق وسياسة إدارة الشمال المغربي.
3- مسألة الصحراء لا تحل ولا يمكن أن تحل في الرباط، وبمنطق الإدارة المركزية للدولة. بل أساسا في عين المكان وبواسطة سكانها أنفسهم، ما يشير ضمنيا إلى أطروحة الحكم الذاتي.
لم يُنصِت إلى هذا الخطاب اليساري العقلاني والديمقراطي أحد. وبرغم من أن الاتحاد الاشتراكي كان يحضر اجتماعات المجلس الوطني للأمن، الخاصة بالموضوع. إلا أن الثقة لم تكن قد اكتملت بين الطرفين، وكان هذا عطبا قاتلا، فضلا على أن «الشؤون العامة» في الداخلية كانت تطبخ في السر خريطة المجالس التي «ستنتخب» في 1976.
لأن «التوافق» كان معطوبا من الأصل كما نبهت. فلقد توقف عمر للتأمل والمراجعة: الاعتقال السياسي مستمر، القرار الوطني محتكر، ونذر التزوير والتدخل الإداري في الانتخابات عن طريق حزب إداري يتأسس في السر «الأحرار». وفي عرض سياسي محدود الحضور رجح المرحوم احتمال مقاطعة الانتخابات الجماعية. وكانت المأساة المروعة والفظيعة، والتي لم تكن أقل أثرا من سابقتها مع الشهيد المهدي، بل ربما أخطر، وعدنا القهقرى إلى ما دون الصفر على جميع المستويات.
9-بالاغتيال المفبرك والمحبوك للشهيد، لم نخسر عمر، ولم نخسر الثقة والتوافق الوطني، ولم نخسر تماسك الجبهة الداخلية، ولم نخسر بنكا للأفكار وكاريزما خاصة ومتميزة للتعبئة الشعبية فحسب... بل خسرنا في نفس الوقت الرصيد والزخم الإسلامي الوليد، والذي كان يمكن، بل كان يجب، استثماره وتوظيف شبيبته وشعبيته، لخدمة القضية الوطنية، القضية المركزية بالنسبة للجميع. هكذا تمكن أعداء الحرية والتحرر والوحدة الترابية في الداخل، وربما الخارج أيضا، من ضرب اليسارية بالإسلامية، وخسر الوطن والوطنية.
10-في هذا الوقت أيضا، تقدم الأستاذ ع. الله إبراهيم والذي أصر منذ البدء على عدم «الخلط» بين المسألتين الوطنية والديمقراطية، ولذلك استمر في مقاطعة الانتخابات، أفكارا ومقترحات في الموضوع، طرحها في عدة مناسبات وعدة صيغ أهم ذلك تأكيده:
1-إن الأفق الممكن والأسلم لحل المعضلة، هو إطار المغرب العربي، وبالتالي تحويلها من عامل معيق للاتحاد، إلى عامل مشجع عليه. بما قد يقتضيه ذلك من تنازلات متبادلة بين دول الاتحاد حول صيغته وتوزيع السلط داخله.
2-العودة إلى شعوب المنطقة، واستفتاؤها في أي قرار بهذا الخصوص، وليس وحسب إدارات دولها. ما يعني موقفا هجوميا وإحراجيا من جهة، وإلزاميا من جهة ثانية. (ستستعمل الإدارة الجزائرية نفس الخطاب لهدف ديماغوجي بصيغة «مغرب الشعوب).
11- الذين يقرأون هذا المقال، يسمح لهم سنهم غالبا بمعرفة المسلسل اللاحق.
تضاعفت مركزة إدارة السلطة، بل وشخصنتها، وازداد تدخل الإدارة العمومية في خدمة طبقة خاصة في المجتمع، ووقع الانسياق أكثر في تنفيذ تعليمات المؤسسات المالية والمنعوتة زورا بكونها دولية، وما هي كذلك، بل فقط وأساسا امبريالية، فغلت الأسعار، وتعمقت المعضلة الاجتماعية والفوارق الجهوية والطبقية وما بين الأجيال، واصطُنعت أحزاب إدارية إضافية، وصار تزوير الانتخابات قاعدة معترفا بها... واختصر ذلك جميعا في نمط تفكير وسلوك شخص يسمى إدريس البصري، كان الحاكم بأمره، استمرت على يديه سنوات الظلام والرصاص.. ومقاومتهما شعبيا.
أما المسألة الوطنية، فساد حولها خطاب رسمي تطميني متفائل، بل واحتفالي، لا يتضمن ولو الحد الأدنى من الحذر، وبالتالي من التأكيد على ضرورة استمرار التعبئة الشعبية وتمتين وحدة الجبهة الوطنية الداخلية.
بكل ذلك وبغيره، انتهت المسألة الوطنية، إلى أن تستخدم ضدا على القضيتين الرديفتين الديمقراطية والاجتماعية، بدل العكس كما هو مفترض، وكما انطلقت، وازداد تفكك، بل وتشرذم الجبهة الداخلية، خاصة بردود الفعل النقابية العفوية العنيفة والمرتبطة بالإضرابات العامة الشهيرة. جدل سالب بالنسبة للقضايا جميعها...
12-ما كان لهذا المسار أن ينتهي إلى خير، بما في ذلك على القضية الوطنية. وهكذا فوجئ الجميع بالقرار الملكي، الموعز به أمريكيا في الغالب (وعن طريق الصهاينة كما اتضح لاحقا في إحدى ندوات المرحوم الصحفية) بقبول استراتيجية الاستفتاء (1981)، وبالتالي إحالة الملف على الأمم المتحدة (مجلس الأمن) أي عمليا إلى يد الامبريالية الأمريكية. تحت وهم أنها حليفة. وهي فعلا كذلك غالبا ولكن للحكام، وهم عابرون، وليس للشعوب وهي المستمرة. وما يهمها هو المستمر لا العابر، الذي يأخذ نصيبه، من وجهة نظرها، ثم ينصرف... عندئذ اضطرت قيادة الاتحاد الاشتراكي لاتخاذ الموقف الشجاع والتاريخي الذي كان منتظرا منها، ليس ضدا على القرار فحسب، ولكن أيضا وبالأحرى على المسطرة. أي على احتكار القرارات الاستراتيجية بله المصيرية. وليس وحسب قضايا التدبير والأجرأة والتسيير.
تعمق الشرخ الوطني، وازدادت الجبهة الداخلية تفككا باعتقال الزعيم الرمز ع. الرحيم بوعبيد ورفاقه. وتوقفت صحف الحزب وحوصرت مقراته، وصدم الشعب المغربي ونخبته، ولم تحر تصرفا، أُحرجت ووضعت بين نارين، و»تكسرت النصال على النصال» كما قال المتنبي. وهذه لم تكن أقل تأثيرا على السيكولوجية الشعبية. وخاصة لدى النخبة من سابقتها العُمرية. ازداد نكوص أخيارها عن العمل العام. وارتدت نحو أنواع من «التصوف» كان الديني منه، أهون صيغه.
13-انطلاقا من دستور 1992 والانتخابات التشريعية المنبثقة عنه، والعرض الملكي الأول لانتقال توافقي نحو الديمقراطية، والدور التخذيلي (في صفوف المعارضة) والمعرقل له من قبل اليمين الإداري.. ثم مرض الملك ودستور 96 المجمع عليه سياسيا، والحديث عن السكتة القلبية. ثم حكومة اليوسفي ومشروع الإنصاف والمصالحة...إلخ.
كان هذا النهج استدراكا إيجابيا وانقاذيا بالنسبة للجميع، وكان بمثابة نقد ذاتي ضمني، في انتظار أن يصبح صريحا من قبل إدارة الدولة وربح منه الوطن في شتى جبهاته:
1-الخروج التدريجي من أزمة الثقة المتبادلة بين إدارتي المجتمع والدولة. ومن تم الخروج من دوامة العنف الانتحاري المتبادل بين الطرفين، والذي لم يتوقف قط منذ 1960.
2- تدشين نهج المصالحة مع التاريخ في صيغة اعتراف وإنصاف لضحايا ما سمي ب»سنوات الرصاص» وجغرافيا مع الأقاليم والجهات المهمشة، خاصة الشمال، ومع المجتمع (المرأة والأسرة خاصة).
3- إنقاذ الأهم من مؤسسات الدولة التمويلية، والتي كانت مستهدفة من قبل الرأسمال الأجنبي، أقصد: الإيداع والتدبير/ الوطني للإنماء / الشعبي / الفلاحي / العقاري وصندوق الضمان الاجتماعي. وذلك فضلا عن بقية المؤسسات الإنتاجية والخدمية الأخرى (الفوسفاط- السكك- الطيران...إلخ).
4- توسيع نسبي لمجال الحريات الديمقراطية (التظاهر والصحافة خاصة) وقضايا حقوق الإنسان.
5-الهجوم الديبلوماسي المضاد حول القضية الوطنية، ومن تم إلغاء أو تجميد الاعتراف من قبل العديد من دول العالم بالجمهورية الوهم.
غير أن جميع ذلك، تم على حساب الطبقة العاملة، حيث استُغل... الوفاق.. للإجهاز على وحدتها النسبية، ومزقت شر مُمزق، وبذلك افتقد الوطن، الشرط الرئيس لاستمرار الانتقال ونجاحه، على حساب جيوب مناوئيه في الداخل وفي الخارج..
14-في انتخابات 2002-2003 توقفت التجربة، بل وارتدت على أعقابها بالتزوير (المتوافق عليه هذه المرة) للانتخابات، وتصدر وزير أمن (=الداخلية) صدارة الحكومة، وهو لا حزب يسنده أو يحاسبه (؟!؟) وذلك بدعوى التقنيين، وهو لفظ مستعار للمخابرات. سيوثق التاريخ الوطني هذا الحدث، باعتباره ثورة مضادة على مسيرة الانتقال الديمقراطي التوافقي. ومنذ ذلك، فإن دراجة الانتقال تتحرك ولكن في مكانها وحول نفسها...
هذه العقبة الكؤود للانتقال، كانت نتيجة لمقدماته، لقد:
أ-تم التوافق عليه في الأقبية والصالونات... بعيدا عن الشعب، بما في ذلك قواعد أحزاب الكتلة، وبالتباس وغموض حول حدوده من قبل أطرافه. وطبعا فلقد كان ذلك لمصلحة الطرف الأقوى فيه..
ب-يبدو لذلك أنه لم يشمل المسألة الوطنية، والتي بقيت لذلك محتكرة من قبل من احتكرها انطلاقا ودائما.
ت-جوهر الإنصاف والمصالحة المفترض والمطلوب، هو الحقيقة ثم المحاسبة والاعتذار في درجة ما، الأمر الذي لم تبلغه هيئتها حتى يومه.
ث-لم يبذل أي مجهود في توسيع دائرة المتوافقين، وذلك حتى تشمل مزاياه، الحركات الإسلامية، مع أن نفوذها تزايد، وتكرست شرعيتها الشعبية، دون السياسية ودون القانونية.
ج-لم تشمل أوراش الإصلاح قطاعات الثقافة والتعليم والإعلام... فخسر نصف رهانه وخسر حماس وتعبئة المثقفين.
ح-بقية الأوراش تعثرت وتأخرت، خاصة من ذلك القضاء والإدارة ومحاربة الأميات.
خ-شملت الخوصصة قطاعات ما كانت الإدارة مضطرة إلى خوصصتها وهي حيوية ومذرة (الكهرباء - الطاقة والدخان..).
د-أما الجهاز الدبلوماسي، فلقد بقي عموما على أزماته العميقة والبنيوية والمزمنة.
كل ذلك وغيره، استهلك تدريجيا الحماس الشعبي للرهان. إلى أن خسره، وانتهى الشعب إلى حالات مقلقة من الابتعاد عن العملين الحزبي والنقابي، مع الاستنكاف عن الشأن العام وخاصة منه الانتخابات (إلا ما كان من انتهازية التهكم لدى بعضه) ودخل الشباب في مسيرة الهروب في المكان (الهجرة) أو في الزمن: المخدرات - الكرة- الموسيقى الراقصة- الشابكة (=الانترنيت) التصوف... وبتشجيع رسمي فوق ذلك.
15-خلال ذلك، فلقد اعتور العلاقة مع الجزائر اضطراب وقلق.. وحسبهم فإن المغرب:
أ-لم يتضامن معهم خلال الفتنة، بل ربما ساعد خصومهم ضمنيا.
ب-قد يكون ساهم في حربهم مجتمعيا، وذلك بتهاونه على الأقل، في محاربة تهريب المخدرات إليهم عبر الحدود(؟!).
وبالطبع، فلقد كانت ردود فعلهم عنيفة وتصعيدية، عن حق أو عن توهم، ومن بينها وبالتحالف مع آخرين من الخصوم والأعداء، الضربات الثلاث ضدا على الخطوط الملكية (طائرة أكدير- فندق أسني- وملف مكوار).
غير أن الأكيد، أن تدبيرنا للعلاقة معهم كان فيه ارتباك، فحيث كان من مصلحتهم، فصل الارتباط في العلاقة الثنائية، أو في إطار الاتحاد المغاربي، وبين مسألة الصحراء، رفضنا نحن. وحين عدنا لهذا الاختيار، رفضوه، لأنهم كانوا قد خرجوا نسبيا من أزماتهم.
أما القرار المتسرع، في فرض التأشيرة على المواطنين الجزائريين كرد فعل... فخطأه معترف به من قبل الجميع، ومعاناة الطرفين منه قاسية، خاصة مغاربة شرق المغرب وأشقاؤنا في غرب الجزائر.. مجتمعا وتجارة وثقافة...
16- ثم يأتي مقترح بيكر الثاني، والذي لا أملك حاليا إمكانية الحكم على مدى سلامة رفضنا له. غير أنني أطرح حوله سؤالا: فيما إذا لم نكن قد تسرعنا أيضا (؟!).
17-وجاءت مبادرة «التنمية البشرية» وكانت مناسبة أخرى للاستدراك. غير أنها:
أ-لم تكن بشرية (أو إنسانية بالأحرى) بحال. وكان المفترض أن تركز على محاربة الأمية، وعلى التكوينات المهنية، وعلى البحث العلمي، وعلى دور آخر مناقض للتعليم وللإعلام...
ب-تولى إنجازها والإشراف على أوراشها، المسؤولون بالذات عن تعثرها وحتى عن تأخرها في الأصل، الداخلية وجماعاتها «المنتخبة» وجمعياتها «المدنية».
16-أما الطامة الأكبر، فهي العود غير الحميد للعادات الموروثة عن المدرسة الاستعمارية، تدخل الإدارة في الشأنين الديني والسياسي-الحزبي وفي الصحافة وعموم الإعلام.
ولا حاجة للوقوف عند الأمر، فالجميع يعانيه، ويعاني منه، ويتوقع الأسوأ من عواقبه على الانتقال المتعثر، وعلى الحريات، وعلى مستقبل الوطن ومصائره.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.