بعد حصوله على شهادة الباكلوريا سنة 1991 في شعبة العلوم التجريبية، نجح مصطفى بوخرواعة في اجتياز امتحانات ولوج كلية طب الأسنان بالدار البيضاء، ليبدأ في تحقيق حلمه في أن يصبح طبيب أسنان. «درست جيدا طيلة مشواري الدراسي بالجامعة، وبعد خمس سنوات، قررت أن أتابع أطروحتي الجامعية المتخصصة»، يقول بوخرواعة ل«المساء». فما إن أنهى مناقشة رسالة الأطروحة، حتى قرر ابن الفقيه بن صالح أن يجمع حقائبه للسفر إلى عاصمة الأنوار لإتمام دراسته هناك، وتعميق معارفه العلمية والتي لن يستطيع تطويرها في بلده، بحكم عدم توفر المؤسسات الجامعية التي تتيح للطلبة المتخرجين استكمال تخصصاتهم المهنية. بعد قبول ملفه في جامعة باريس السادسة، رحل بوخرواعة إلى فرنسا لدراسة تخصص تقويم الأسنان، والتي دامت ثلاث سنوات، لينضاف إلى المغاربة الذين يفضلون فرنسا، حيث يتابع 30 ألف طالب مغربي دراستهم بها. «كانت تلك أفضل ثلاث سنوات دراسية في حياتي، تعامل معنا الأساتذة والمسؤولون خلالها وكأننا أطباء عكس ما كان عليه الأمر في الجامعة التي درست بها»، يقول بوخرواعة. سنوات الدراسة بالدار البيضاء كانت بالنسبة إليه «أشبه بالحضانة» ،تجعل الأساتذة يتعاملون مع الطالب، في نظره، وكأنه طفل صغير. رغم مرور سنوات على ذلك الحادث، يتذكر بوخرواعة كيف وقف مرتبكا وهو يدرس في السنة الرابعة أمام الطلبة بعد أن أخذ للتو معدات للتدخل الجراحي، وسط سخرية أحد الأساتذة الذي نادى على زملائه ليشاهدوا الموقف.. «لم يمنحني الفرصة لكي أفسر له ما حصل، لكن القدر جمعني به في الجامعة الفرنسية، لم يتذكرني طبعا وعاتبته على موقفه السابق معي، فيما ظل يتابع فحصي للمرضى»، يبتسم بوخرواعة بنبرة انتصار. بعد إنهاء سنوات الدراسة، قرر هذا الطبيب أن يعود إلى المغرب بعد إلحاح والديه اللذين لم يستسيغا أن يرحل أبناؤهم الستة إلى الخارج للدراسة والاستقرار هناك، ليفتح عيادته الخاصة بالمغرب. يبرر بوخرواعة هذا القرار قائلا: «وجدت الاستقرار النفسي في بلدي، وعلي أن أرد الجميل لوطني رغم كل شيء. لم أكن لأبقى في فرنسا ولو حصلت على مصحة في الشانزيليزيه، إنها مسألة اختيار، وقراري كان العودة إلى وطني». عرف عدد التأشيرات الممنوحة للطلبة المغاربة بفرنسا تراجعاً بين سنتي 2001 و2006 بنسبة 55 في المائة وفق إحصائيات وزارة الشؤون الخارجية الفرنسية، إذ انخفض من 9187 تأشيرة سنة 2001 إلى 4201 سنة 2006. ويشير دليل الطالب، الذي صدرت نسخته لسنة 2009 قبل شهر حول دراسة المغاربة في الخارج، إلى أن هؤلاء يظلون أكبر كتلة بعد الطلبة الفرنسيين في المدارس والجامعات الفرنسية، إذ يختار عشرات الآلاف من الطلبة المغاربة من الحاملين لشهادة الباكلوريا، أو دبلوم باكلوريا زائد سنتين، أو الإجازة أو الماستر مغادرة المغرب بحثاً عن آفاق أخرى لتطوير مسارهم التعليمي. وفي السنة الماضية، تم صرف 7 ملايين درهم لمنح الدراسة في الخارج، ومليون درهم لرسوم التسجيل في المدارس الأجنبية استفاد منها 102 ألف طالب، مع تفاوت في حجم المنحة تبعا لكل دولة على حدة، وتبلغ في العموم 3918 درهما في كل 3 أشهر، إلا أنها ترتفع إلى 4158 درهما. فارق المهدي والديه بمدينة سلا على أمل العودة بشهادة الماجستير في العلوم القانونية، وشد الرحال إلى مدينة بوردو بفرنسا، وهو يحلم بمكتبه الخاص في الخبرة المحاسباتية، التي تعد تخصصا قانونيا صعبا، ويستدعي الحصول على شهادته الدراسة في الخارج والاستفادة من الدورات التدريبية المتخصصة لدى الشركات ومكاتب الخبراء. «سافرت في فصل الشتاء سنة 2000، وأحسست بالغربة في السنة الأولى.. لاقيت تعاملا جيدا لدى الفرنسيين بشكل لم أتوقعه في البداية، مما سهل علي الاندماج بسرعة داخل المجتمع الفرنسي». لتوفير مصاريف دراسته، كان المهدي يعمل بعد انتهاء حصصه في مكتبة الجامعة، ويقوم بتخزين بيانات الكتب المعارة داخل الحاسوب، وفي المساء، كان يقبل بنهم على قراءة الكتب وإعداد البحوث الجامعية. فترة الإعداد للامتحانات، كانت دوما فترة حساسة بالنسبة إلى المهدي، تجعله «معتكفا» داخل غرفته التي يتقاسمها مع طالبين مغربيين آخرين، ولا يخرج رفقتهما. «كنت أدرس ليل نهار لكي أحصل على نقط جيدة، لا أتغيب عن المحاضرات لأنني كنت أخشى الفشل في دراستي والعودة بخفي حنين إلى عائلتي»، يردد المهدي. بعد مرور سنتين، نجح هذا الطالب في الحصول على شهادة الماجستير، فرحته كانت بحجم الطموح الذي تولد بداخله إلى أن يكمل ما بدأه ليتوجه بالحصول على الدكتوراه بعد أن استفاد من منحة التفوق التي منحتها له الجامعة، وبعد أن أقنع عائلته باختياره، عاد ليدرس بعزيمة أكبر. «لم أكن أعتبر نفسي مهاجرا مغربيا بفرنسا، وحصل أصدقائي على الجنسية الفرنسية بسهولة، فقد كان الأمر محسوما بالنسبة إلي منذ البداية، وهو أن أحصل على شواهدي الجامعية وأعود للعمل بالمغرب لأفتح مكتبي» يقول المهدي. مضت السنوات بسرعة، عاد المهدي إلى المغرب، وحصل على قرض بنكي ساعده على إكمال المبلغ المالي الذي كان معه ليبدأ مشروعه الذي طالما حلم به، وأصبح خبيرا في المحاسبات بمسقط رأسه، ولم يندم على جواز السفر الأحمر الذي تركه وراء البحار.