تجلس سيدة تلبس لباسا أبيض رفقة والدها وأبنائها يترقبون كل قادم في منزل يرتفع فوق تلة بدوار تسليت، قدر الدوار الذي يحمل اسم تسليت، أي العروسة باللهجة الأمازيغية، أن تتحول أعراسه إلى أحزان منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، «إنهم يسخرون منا ويطالبوننا بدفن جثة والدنا دون أن يعتقلوا كل الجناة»، بهذه العبارات استقبلنا سعيد الحضري ابن الضحية علي الحضري، الذي فارق الحياة في الرابع عشر من أكتوبر الماضي بعد تعرضه لاعتداء بالسيوف رفقة ابنه. «المساء» انتقلت لدوار تسليت بجماعة تابية بأزيلال لنقل قصة جثة يرفض أهلها ضغوط السلطات من أجل دفنها رغم مرور قرابة شهر على وفاة صاحبها. لا يخطر ببال السالك للمنعرجات والجبال مخترقا الأودية أن هدوءا وسكينة بدوار تسليت بجماعة تابية يخفيان وراءهما بركانا من الغضب، تنطلق السيارة من مركز أولاد عياد على بعد 45 كيلومترا من بني ملال في اتجاه آيت عتاب، تقطع بنا السيارة مسيرة 20 كيلومترا قبل الوصول إلى مركز واحدة من أقدم المراكز بالمغرب، جماعة مولاي عيسى بن ادريس، «هنا آيت عتاب، وهناك الطريق إلى تابية، هل تقصدون عائلة علي الحضري، مساكن ما كاين قانون في البلاد، إنهم ينتظرون تحقيق العدالة وقصتهم أصبحت حديث كل سكان القرى والجماعات المجاورة»، بهذه العبارات يجيبنا شاب سألناه عن الوجهة إلى تابية على بعد أكثر من 30 كيلومترا، كانت شمس الأصيل تقترب من الغروب، ومعها يغرب يوم جديد ولا جديد ينتظره أفراد عائلة قرروا كسر كل الأعراف والعادات إلى أن يحقق القضاء حقهم المشروع، كانت فطومة، المرأة التي تلبس اللباس الأبيض تنظر بعينين شاخصتين في صمت دون أن تنبس بكلمة، ودون أن تسقط من عينيها دمعة واحدة، «هذا حالها منذ أن قتل والدي، وأصيب أخي بجروح يرقد بسببها بين الحياة والموت بالمستشفى الجهوي ببني ملال»، يقول ابنها وهو يكفكف دموعه، كان أفراد الأسرة يتجمعون كعادتهم أمام باب المنزل الحجري، بيت مشابه لكل البيوت هنا في هذه القرية البعيدة، وسط بقعة أرضية يبلغ طولها حوالي 50 مترا، وعرضها 40 مترا، بضع شجيرات زيتون وأغراس بسيطة في مرتفع تلي، وحصير رث وصمت يخيم على الجلسة العائلية في انتظار الذي يأتي. عندما تحولت جماعة تابية إلى مركز للخوف «كانت القرية تنعم بالهدوء قبل أن يحل بها أفراد هذه العصابة في أواخر سنة 2009، كانت البداية عندما طردوا عمهم من المنزل وأصبح متسولا، وهو الذي عاش سنوات في القرية لا يعرف السكان غيره مستحقا لذلك المنزل، قبل أن يخضع لسلطة السيف والضرب والتهديد»، يقول علي القندوسي، الرجل الستيني الذي يتحدث عن تاريخ تحول القرية الهادئة إلى بؤرة للخوف والرهبة، «إنهم عائلة تحترف الإجرام واعتدوا على العشرات من السكان وسلبوهم أرضهم وممتلكاتهم بالقوة دون أن يحرك رجال الدرك أو القضاء ساكنا»، يقاطعه الشاب إبراهيم الذي بدأ يتصبب عرقا بمجرد ذكر أسماء المعتدين، «لقد اعتدى علي أيوب وإلياس، وعندما تقدمت بشكاية ضدهما فوجئت بأنهما تقدما بشكاية ضد كل أفراد عائلتي، فاضطررت إلى التنازل رغم أنني الضحية، بعدما أصبحت أقطع رفقة عائلتي مسافة تزيد عن 100 كيلومتر لمحكمة أزيلال دون نتيجة». لا تختلف قصة إبراهيم عن قصص أخرى لسكان آخرين، هنا محمد ونيناش، الذي سلبت أرضه بالقوة وسلبت أمواله، كانت الطريقة التي يلجأ إليها المعتدون سهلة، بعيدا عن أعين رجال الدرك، الذين عليهم قطع مسافة تزيد عن 40 كيلومترا قبل الوصول إلى دوار تسليت انطلاقا من مركز إمداحن وادي العبيد مرورا بمركز ابزو ووصولا لفم الجمعة، ثم بعدها لدوار تسليت، تتلخص الطريقة المعتادة في الاعتداء على السكان واحدا تلو الآخر، والمسارعة بتهديد الشهود بمصير مماثل، قبل أن يقدموا شكاية بالضحية معززة بشواهد طبية لرجال الدرك، ليتم طي الملف في حينه بتنازل من الضحية، خوفا من الانتقام وعجزا عن تقديم الشهود، واستسلاما أمام بطء وتعقيد مسطرة الدرك والقضاء. يعتقد السكان هنا ببراءتهم أن تعرضهم للاعتداء موجب للقصاص من المعتدين من طرف «المخزن»، لكن الأحداث السابقة دفعتهم للاستسلام شيئا فشيئا، قبل أن يصبح من يتهمون بالإجرام أسيادا على القرية التي كانت تنعم بالهدوء. عندما اقتحم المتهمان مقر البلدية بالسيوف وهددوا الموظفين سمير سوستان، الموظف الجماعي البسيط، يسرد لل«مساء» حكاية تعرضه للاعتداء مرات عديدة، «لا تربطني بالشقيقين المعتديين أي علاقة، خاصة وأنني من مدينة دمنات، كانا لتوهما قد قاما بالاعتداء على أحد السكان، وتجنبا لشهادتي هددني أحدهما، وهو إلياس، أن مصيري القتل إن لم أغادر البلدة، وفي المساء تمت مهاجمة بيتي بالحجارة، وعندها تقدمت بشكاية لوكيل الملك، لكن منذ ذلك الوقت لم يتم اتخاذ أي إجراءات ضدهما، بل تم تهديدي من جديد، لأضطر إلى تقديم تنازل للمعتديين خوفا على نفسي، ورغم تقديمي للتنازل فقد استمر مسلسل تهديدي من طرف أصدقاء للشقيقين مساء نفس اليوم الذي وقع فيه مقتل الضحية علي الحضري»، يتحدث سمير بمرارة عن الحالة النفسية لزوجته وبناته، بعدما أصيبت إحداهن بمرض التبول اللاإرادي من شدة الخوف مع كل تهديد، فيما ترفض الزوجة الاستمرار في السكن بدوار تسليت، لكن واقعة غريبة يكشفها سمير تؤكد حجم التسيب بالقرية، «لقد اقتحم الشقيقان مقر الجماعة وهددا الموظفين وهما يشهران السيوف متوعدين الرئيس والموظفين في مناسبتين». قصة سمير لا تختلف عن قصة محمد الزين، الذي وجد نفسه مرات عديدة في مواجهة الشقيقين ووالدهما الذي كان يشغل مديرا لإحدى المؤسسات التعليمية، كان محمد يتحدث مرتجفا عن الترامي على ملكه والاعتداء بعد ذلك على ابنه وإصابته بجروح، لكنه سيفاجأ في اليوم الموالي وهو يستعد لتقديم الشكاية أنه موضوع شكاية من طرف المعتدي يتهمه فيها بالاعتداء عليه، حيث قام الجاني بتقديم شهادة طبية تثبت عجزا محددا في 22 يوما، وهي نفس الفترة التي حددت في أغلب الشهادات الطبية التي كان يحصل عليها من طبيب خاص بمركز أبزو، استسلم محمد الزين للإرهاب والتهديد قبل أن يسارع إلى تقديم تنازل عن الشكاية، بل واستجداء تنازل من المعتدي، لكنه بعد أيام سيكون ضحية اعتداء أمام السكان الذين خافوا من التقدم بشهادتهم، خاصة بعد تداول السكان لحكاية العلاقات المريبة التي تربط المعتدين ووالدتهم برجال الدرك بوادي العبيد، يختم محمد الزين قوله بأنه غير مصدق لحكاية اعتقال المعتدين، بل من السكان من يحتفظ بسلاح ناري لحماية نفسه. يوم قتل علي الحضري بعد عودته من مقر الدرك الملكي لا تختلف حكاية علي الحضري عن سكان القرية، إلا أن مصيره كان أكثر بشاعة من مجرد الاعتداء عليه وسلبه أرضا أو مالا، بل كان الاعتداء سببا في سلبه حياته، وتهديد حياة ابنه الذي يرقد اليوم بالمركز الاستشفائي الجهوي ببني ملال في انتظار تحسن حالته لنقله وإجراء عمليات جراحية دقيقة له بمستشفى الدارالبيضاء أو الرباط، علي الحضري الرجل الستيني الذي تقدم قبل وفاته بشكاية لوكيل الملك بالمحكمة الابتدائية بأزيلال بعدما عمد الشقيقان، أيوب، وإلياس ب، إلى قلع أشجار الزيتون بقطعته الأرضية الفلاحية الصغيرة المحيطة بالمنزل، والتي عاينت آثارها جريدة «المساء»، عاد علي الحضري بتوجيه من وكيل الملك إلى مركز وادي العبيد، كما يثبت محضر للدرك الملكي ويقره أيضا تقرير رفعه المركز لوكيل الملك، مضمنا إياه تصريحه بالاعتداء عليه، كان ذلك زوال يوم الجمعة عاشر أكتوبر الماضي، ليحل بعد ذلك المتهم إلياس معززا حضوره بشهادة طبية تحمل عجزا لمدة 21 يوما مسلمة من طبيب خاص بمركز ابزو، و«الذي لم يكن يحمل أي آثار للضرب أو العنف»، كما يؤكد تقرير الدرك والمحضر. لم يكن الرجل الستيني يعلم أنه مساء نفس اليوم سيهجم عليه أربعة أشخاص، «بعدما طرق والد المعتديين بيته طالبا منه الصفح عن ابنيه، قبل أن يفاجأ بهم يوجهون له الطعنات بالسيوف رفقة ابنه حسن» يؤكد ابنه سعيد الحضري، كانت الضربات القاتلة سببا في وفاة الرجل الستيني علي الحضري، وكان مصير ابنه الجروح الخطيرة التي كسرت فكه بالكامل ومنعته من الكلام، بينما لاذت ابنته حفيظة وابنه خالد بالفرار، فبعدما رأى الوالد أنه هالك، طلب منهما النجاة بنفسيهما. ثورة القرية التي ضاقت ذرعا بالظلم تتضارب الروايات حول عدد الشكايات التي تقدم بها سكان القرية في مواجهة الشقيقين ووالديهما بدوار تسليت، الذي يحتضن مقر جماعة تابية، ففي الوقت الذي يؤكد فيه السكان أنها تجاوزت 22 شكاية، قالت ابنة الضحية علي الحضري، حفيظة الحضري، إنها تجاوزت 40 شكاية، كان أول قرار اتخذه شبان القرية، كما يؤكد طارق وعبد الكريم، أن السكان وقعوا عريضة احتجاجية بلغ عدد الموقعين عليها أكثر من 140 شخصا، تحتفظ «المساء» بنسخة منها، كانت العريضة تطالب بسحب ملف القضية من أيدي رجال الدرك الملكي بوادي العبيد لعدة عيوب شابت تحقيقهم في الموضوع واقتصارهم على متهم واحد، فيما وجه رجال ونساء القرية الاتهام لخمسة متهمين هم الشقيقان ووالدهما ووالدتهما ورجل خامس كان بصحبتهما، وواصل رجال القرية الضغوط بعد مقالات صحفية ودخول هيآت حقوقية في الدفاع عن القرية، وبعدما رفضت العائلة دفن الضحية علي الحضري رغم جهود رجال الدرك وقائد المنطقة لإقناع العائلة وبعث المنتخبين لذات الغرض، وتمت إعادة فتح تحقيق جديد أفضى لاعتقال أربعة متهمين، في الوقت الذي عجز فيه رجال الدرك عن الوصول لأحد الشقيقين. ينام سكان دوار تسليت على الإحساس بالخوف يوميا من تحول مسار التحقيق، وعدم اعتقال أحد المتهمين الرئيسيين في مقتل علي الحضري، فيما تنتظر الجثة قرارا بدفنها، مرتبطا بشرط اعتقال المتهم الرئيسي وتقديمه للعدالة، فيما يغرس الأبناء في مكان سقوط الوالد شجرة تين رمزا للحياة في مكان الموت، مؤكدين أنها شجرة تذكرهم كل يوم بالظلم الذي لحق بوالدهم وتطالبهم بتحقيق العدل مهما كلف الثمن، والبداية كانت من رفض دفن الجثة، فيما آثار دماء جافة في مكان سقوط الابن حسن ما تزال في مكانها، وبينهما تقف الطفلة عزيزة، أصغر أبناء الضحية علي الحضري، تحضن صورته كل مساء بعينين دامعتين، وهي التي كانت شاهدة على مقتله.