منذ الأيام الأولى من «الربيع العربي»، تساءل الكثير عن أسباب غياب المثقف عن الساحة في هذه المرحلة التاريخية، واعتبر بعض المحللين أن ضعف التأطير الفكري للحركات الاحتجاجية من أهم أسباب فشلها في العديد من البلدان العربية. ودون شك، فإن العالم العربي، مقارنة به في ستينيات القرن الماضي، يعرف تراجعا نسبيا لدور المثقف في الفضاء العام؛ فقد كانت الجامعة العمومية آنذاك تساهم بشكل قوي في النقاش الفكري والانفتاح الثقافي، وكان الطلاب أهم فئة تنصت للمثقف وتتفاعل معه. لكن غياب المثقف اليوم، لا يمكن أن يفسر فقط بالتحولات التي عرفها «الجمهور» الطلابي، لأن التغيرات التكنولوجية أتاحت فضاءات جديدة للتواصل على الشبكة العنكبوتية كما بينت ذلك ثورتا تونس ومصر. وفي الواقع، فإن المثقف الحالي مسؤول، كذلك، عن غيابه النسبي عن الفضاء العام، حيث لا يبدو أنه قادر على اتباع طريق المثقفين الذين سبقوه في مهمة تنوير الرأي العام. وفي العشرين سنة الأولى من الاستقلال، كانت أسماء بارزة في الفكر التاريخي وعلم الاقتصاد وعلم الاجتماع والآداب تنشر كتبا من مستوى عالٍ، وتساهم في التكوين الفكري للطلبة والمجتمع المدني والسياسي.. كان لتلك الوجوه وزن في المجتمع لأنها كانت تملك «رأسمالا» رمزيا قويا بسبب إنتاجها العلمي أو الفكري أو الفني، والتزامها بقضايا سياسية عادلة. أما اليوم، فقد تحول العديد من المثقفين إلى مرتزقة يبيعون خدماتهم إلى من يقدم إليهم أفضل ثمن، ويرونا في عملهم وسيلة للتقرب من مراكز السلطة والحصول على الجاه. وهذا النوع من «المثقفين» لا يمكن أن تكون له مصداقية أمام المجتمع. وفي نص معروف في تاريخ الفكر الغربي عنوانه «ما الأنوار؟»، يقول المفكر الألماني إمانويل كانط إن المثقف هو الذي يعتمد على العقل الناقد في الفضاء العام أيام كانت الكنيسة لاتزال تهيمن على الأذهان الأوربية. لكننا اليوم نجد كثيرا من المثقفين الأوربيين غير وافين بدور المثقف كما سطره كانط، وبالخصوص في القضايا المتعلقة بفلسطين أو بالعنصرية ضد المسلمين أو بحقهم في ممارسة شعائرهم الدينية. وهذا النوع من المثقفين حاربه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد الذي عانى الكثير بسبب دفاعه عن القضية الفلسطينية في الإعلام الغربي، لأن مهمة المثقف تقتضي من هذا الأخير، في تصوره، أن يقول كلمة الحق للسلطة والنخب الحاكمة ويعطي صوته المسموع للقضايا العادلة ولمن لا صوت له في الفضاء العام. إذن، لا يمكن للمثقف أن يقوم بمهمته إلا إذا كان مستعدا أن يفقد الكثير، وأن يتعرض، في بعض الأحيان، للاعتقال التعسفي، وفي أقصى الحالات للاغتيال. ودور المثقف، كما يتصوره إدوارد سعيد، ليس غريبا عن دور العالم في الحضارة الإسلامية، حيث كان هو الذي يواجه السلطان بالكلام إذا كان هذا الأخير ظالما أو طاغيا، لأن هذا الأمر غير مرتبط ب»الحداثة» الغربية وإنما هو مسألة أخلاقية تهم جميع الأمم عبر التاريخ. واليوم، في ظل أنظمة سياسية سلطوية لا توجد فيها سلطات مضادة ولا تخضع فيها سلطات الحاكم للمراقبة ولا للمساءلة، نحتاج إلى المثقف الذي يقول كلمة الحق ويعمل في إطار جماعي يجمعه مع مثقفين آخرين لمواجهة السلطة فكريا في الفضاء العام، لأنْ لا شيء سليما يمكن أن ينتج عن أنظمة سياسية تسود فيها كلمة الحاكم وحدها ولا تسمح للأصوات المغايرة أن تنتقده.