كتابه عن الاستشراق زلزل قواعد مؤسسة معرفية كاملة كانت لها سطوة السلطان وعصف بكل تصوراتها المنهجية والإيديولوجية وكشف دورها في ترسيخ هيمنة الغرب الرمزية والفعلية على الشرق وفهمها المغلوط له “. «قررت أن أصنع تاريخي الشخصي». «قناعة» صارت شعارا داخليا لإدوارد سعيد، اكتسبها من الفيلسوف الإيطالي « فيكو» الذي ينتصر لإرادة الإنسان في صنع تاريخه. وصارت أساسا لعمله الفكري الذي إذا تابعناه سنجده مثالا يتجسد فيه هذا المثقف الانشقاقي، الهاوي، الرافض لأي سلطة، والقادر على أن يقول الحقيقة في وجه هذه السلطة مهما كانت سطوتها وجبروتها. عندما حاوره ديفيد بارسميان سأله: لماذا اخترت أن تخطو خارج غرفة الصف وقاعة المحاضرات؟». أجابه: «أعتقد أن الأمر الأساسي هو أن تستمر في طريقك وتذكر أن ما تفعله وتقوله يعني أكثر بكثير من مسألة كونك آمنا أم لا». هكذا يختار إدوارد سعيد الطريق الأصعب للمثقف الذي لا يجب أن يكون همه الأساسي إرضاء جمهوره ، وإنما أن يكون محرجا ومناقضا بل حتي مكدرا للصفو العام ، دور يساهم في إقلاق السلطة بأفكارها الراسخة». وهكذا أيضا - يخاطر إدوارد سعيد بحياته وراحته ليرضي ضميره رافضا الاكتفاء بالبرج الأكاديمي ليدخل ساحة الصراع الإعلامي مع اللوبي الصهيوني في معقله الأمريكي الذي لم يتوان في أن يضع اسم سعيد علي رأس قائمة المطلوب اغتيالهم. وقام بحرق مكتبه في الجامعة التي تولت حمايته، وقامت بتغيير زجاج بيته إلي زجاج واق من الرصاص، فضلا عن التهديد المباشر لأطفاله، ومعاملتهم أسوأ معاملة في مدارسهم، وهكذا يمكن أن يصبح إدوارد سعيد «بروفسور الإرهاب» حسب تعبير آلة الإعلام الصهيوني، أو «الجني الذي خرج من القمقم العربي لتدمير كل شيء» كما يقدمه الإعلام الغربي، أو «مندوب ياسر عرفات في أمريكا». ياسر عرفات هو نفسه الذي يصادر – فيما بعد كتابات سعيد بعد رفضه لاتفاقية ( أوسلو). ولم يكتفِ بذلك بل وفي مفارقة مثيرة للسخرية وجه إليه الإعلام الرسمي التابع للسلطة الفلسطينية اتهاماته ... وكانت التهمة أن مستر سعيد ليس سوي «مستشرق». (مستشرق)...وهو الذي كرس حياته من أجل فضح الاستشراق، وتفكيك خطابه وإبراز تناقضاته، وكتابه الذي حمل نفس الاسم قلب التصورات الغربية عن الشرق رأسا على عقب، واعتبر وقت صدوره بمثابة «ثورة» في مجال الدراسات الإنسانية. حيث زلزل الكتاب- حسب تعبير مترجمه إلى العربية كمال أبوديب قواعد مؤسسة معرفية كاملة كانت لها سطوة السلطان وعصف بكل تصوراتها المنهجية والإيديولوجية وكشف دورها في ترسيخ هيمنة الغرب الرمزية والفعلية علي الشرق وفهمها المغلوط له». إنه القلق الذي يسببه المثقفون للسلطة أيا كانت- بوصفهم « تلك الشخصيات التي لا يمكن التكهن بأدائها العلني أو إخضاع تصرفها لشعار ما، أو خط حزبي تقليدي، أو عقيدة جازمة ثابتة « حسب تعبير سعيد نفسه في كتابه» تمثيلات المثقف» الذي يرسم فيه ببراعة شديدة رؤيته للمثقف، أنماطه، ومواقفه. يري سعيد أن المثقف هو فرد له في المجتمع دور علني محدد لا يمكن تصغيره إلي مجرد مهني: « مهمته أن يطرح علنا للمناقشة أسئلة محرجة ويجابه المعتقد التقليدي والتصلب العقائدي بدلا من أن ينتجهما «...ويكون شخصا ليس من السهل استيعابه، وأن يكون مبرر وجوده تمثيل كل تلك الفئات من الناس والقضايا التي تنسي ويغفل أمرها علي نحو روتيني». يمثل هذا المقطع من كتاب سعيد بؤرة تفكيره في قضية المثقف وخلاصة النظر التي يطرحها. حياة إدوارد سعيد منذ ميلاده وحتى رحيله تمثيل لهذا المثقف الذي يبحث عنه إدوارد نفسه. ولد في القدس عام 1935 وقضى سنواته الأولي وهو يتابع تنفيذ المشروع الصهيوني الاستيطاني بها، وأمام هذا الواقع المضطرب أرسله والده للالتحاق بكلية فيكتوريا في الإسكندرية التي كانت وقتها أرقى المدارس الإنجليزية الخاصة في المشرق العربي كله، ولكن يبدو أن الصبي الذي اغترب عن وطنه منذ نعومة أظافره، كانت لديه القدرة علي إثارة الزوابع حيثما حل، لأنه سرعان ما واجهته مشكلة من نوع جديد، مشكلة « التمرد» على العقلية الاستعمارية التي كانت تدار بها هذه المدرسة وأمام هذه المشكلة أرسله والده إلي مدرسة مونت هيرمون بأمريكا. وبعد أن أكمل دراسته بها التحق بجامعة برنستون حتى تخرج فيها متخصصا في الأدب الإنجليزي والمقارن. العقلية الاستعمارية كانت إذن هي السلطة الأولى التي واجهها إدوارد«، تمرد عليها وتصدى لها منذ طفولته ،بل حتى رحيله ليصنع من خلالها تاريخه الشخصي. في بدايته وجد نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما: (إما الانسياق في تيار صنعه آخرون أو شق مجرى جديد، إما أن أكون مجرد باحث جيد أو أستاذ مجتهد أو رقم في طابور المقلدين، أو أن أبدأ مشروعا فكريا أكون أنا مبدعه الأول». وكان هذا هو التحدي الحقيقي لإدوارد سعيد. جاءت هزيمة 67 التي يصفها بأنها « لحظة انكسار دفعتني إلى البحث عن بداية جديدة لكل شيء.. حثتني لأبحث عن لملمة شذرات تاريخي العربية ووصلها بالمستقبل.. اكتشفت أنني قبل 67 لم اختر شيئا، وكان هذا « الطريق القاسي» كفيلا بميلاد جديد لمشروع جديد بدت معه كل ما سبق من سنوات العمر وكأنها مجرد محاولات للبحث ... عن الذات وعن الطريق». ومن هنا عمل إدوارد سعيد علي التعبير عن رؤيته تلك من خلال نقده الجذري لمكونات العقل الأدبي الغربي ذاته، ولسلطته وهو ما تجلى في كتابه الهام الاستشراق.. هذا الكتاب الذي لفت الأنظار إلى حقيقة أن المثقف حتى ولو كان منفيا عن وطنه غريبا في المجتمع الذي أصبح يحمل جنسيته يستطيع أن يعلن احتجاجه ونقده لثقافة هذا المجتمع. كما كان هذا الكتاب مثالا من نوع آخر لتمرد سعيد، تمرده على النظرية الجاهزة لينتج أفكاره الخاصة به، وكأن النظرية- كما يذهب فيصل دراج – لا تساوي إلا المدى المفتوح في البحث الدءوب عنها. لم يكن سعيد في منهجه المفتوح يقبل بالنص محاطا بالإكبار وبحراس الكتب، بل كان يفتش في النص عن قوله الخبئ وقوله المقنع، وقوله الكاذب أحيانا وقوله المبشر بالقتل المضمر أو الصريح في بعض الأحيان». وعن طريق سعيد أيضا استمع الغرب للمرة الأولي إلي حكاية الصهيونية من وجهه نظر الضحية في كتابه (المسالة الفلسطينية) .... وعندما التحق بالمجلس الوطني الفلسطيني كان دوره تقديم المعرفة والنصيحة، محتفظا بحريته الفكرية، دوره كان رفض المتاح والأمر الواقع والسعي نحو الأفضل والطرح الجديد...لأن المفكر ليس خادما لسلطة أي سلطة! لم يكن سعيد إذن في كل مواقفه سوى الخارج دائما، متهم من كل الأطراف ولن يستطيع – أبدا – أن يرضي أحدا . وهذا هو قدر مثقف مثله لم يكتف بالبرج العاجي للأكاديميين ، واختار الاشتباك مع اللحظة بكل ما تحمله من « وسخ « وان يعلي صوته بدلا من الصمت ... شأنه في ذلك شأن كبار المثقفين والمفكرين ، ليصبح حتى بعد رحيله محط إعجاب وتبجيل ونقد وخلاف وعداء . ولأنه مثقف يجهر بالحقيقة على آخر مداها من دون احتساب مسبق لموازين الربح والخسارة، فقد استطالت صفوف المعجبين به وكذلك صفوف الخصوم! بقلم: محمد شعير كاتب مصري