خورشيد دلي ليست معركة كوباني (عين العرب) معركة على رقعة جغرافية بقدرما هي معركة إرادات على رسم المشاريع المتدفقة في الجغرافية السورية بالنار والدم، فهذه المعركة خطفت أنظار العالم طوال الأسابيع الثلاثة الماضية. ولعل ما زاد من لفت الأنظار إليها هو الصمود الأسطوري للمقاتلين الكرد رغم الفارق الكبير بينهم وبين مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العدد والعتاد، حيث حاصر التنظيم المدينة، شرقا وجنوبا وغربا، ووضعها في مرمى نيرانه الكثيفة، فيما بقيت شمالا تحت رحمة الجانب التركي الذي حشد قواته على الحدود لمواجهة تداعيات نزوح عشرات الآلاف من كوباني، فضلا عن التأهب لمعالجة أي طارئ أمني. وعليه، فإن المعركة بالنسبة إلى الكرد كانت معركة وجود وهوية، استباقا للتداعيات التي ستترتب عن المشروع الكردي في سوريا والمنطقة. ولعل هذا ما زاد من إصرار داعش على احتلال المدينة ولو تحت قصف غارات التحالف الدولي التي لم تؤثر على تقدمه. معركة المشروع الكردي تتوسط منطقة كوباني المنطقتين الكرديتين في سوريا، أي محافظة الحسكة بمدنها القامشلي ورأس العين وعاموده ودرباسيه في الشرق، ومنطقة عفرين في الغرب، وهي -كرديا- تشكل معقلا لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي بزعامة صالح مسلم، حليف حزب العمال الكردستاني؛ كما أنها تشكل قيمة رمزية للحزب الأخير، إذ إن زعيمه عبد الله أوجلان لجأ إليها عقب هروبه من تركيا عام 1979 وينتمي إليها العديد من قادة الحزب. وعليه، فإن كوباني تحتل مكانة معنوية كبيرة لدى الكرد، خاصة وأنها تشكل إحدى المقاطعات الثلاث التي أعلنها حزب الاتحاد الديمقراطي في إطار ما عرف بمشروع الإدارة الذاتية. الحصار الخانق الذي فرضه داعش على كوباني وموقعها الجغرافي المعزول -بسبب وقوعها بين المناطق العربية- حالا دون وصول مساعدات من المناطق الكردية الأخرى إليها، وكان المقاتلون الكرد منذ البداية أمام خيارين: إما القتال حتى النهاية أو تسليم المدينة إلى داعش بدون قتال ولو على طريقة ما جرى في الموصل ا لعراقية. لكن من الواضح أن الكرد فضلوا الخيار الأول، وعندما اختاروه ربما كانوا يراهنون على عدة عوامل من شأنها قلب المعادلة لصالحهم، منها ضربات التحالف الدولي ضد داعش، وإمكانية وصول مساعدات عسكرية لهم، سواء من داخل المناطق الكردية في سوريا أو من أكراد تركيا، وربما كانوا يراهنون على تدخل تركي لصالحهم في لحظة ما، فضلا عن قدرتهم القتالية العالية. لكن من الواضح، أيضا، أن العوامل الثلاثة الأولى لم تكن حسب توقعاتهم، فيما فقد عامل الصمود والمقاومة أهميته تدريجيا على أرض المعركة يوما بعد آخر بسبب كثافة هجوم داعش والأسلحة المتطورة التي بحوزته والتي جلبها من الموصل في العراق والفرقة 17 ومطار الطبقة في محافظة الرقة السورية. دون شك، ستكون لخسارة الكرد معركة كوباني تداعيات كبيرة على مشروعهم في سوريا، فوقوع كوباني بيد داعش يعني، أولا، فصل المناطق الكردية السورية عن بعضها جغرافيا بشكل نهائي، إذ إنه لن يعود بإمكان ابن القامشلي الانتقال إلى عفرين أو العكس؛ وثانيا، يعني أن داعش نجح في عزل محافظة الحسكة نهائيا عن باقي المناطق السورية، وستكون المحافظة التي فيها كثافة كردية أكثر هي الهدف التالي للتنظيم، حيث آبار النفط والغاز التي تسيل لعاب التنظيم. هذا فضلا عن أن العامل المعنوي سيكون له دور كبير في مجريات المعارك المتوقعة في المرحلة المقبلة، وعليه فإن مرحلة ما بعد كوباني ستكون مرحلة الخيارات الصعبة للكرد بعد أن اعتقد كثيرون أن الأزمة السورية وفرت لهم فرصة كبيرة لتحقيق تطلعاتهم القومية. حسابات داعش أهمية معركة كوباني بالنسبة إلى داعش لا تقل عن أهميتها بالنسبة إلى الكرد، فإذا ما نجح التنظيم في احتلال المدينة فستصبح حدود الدولة الإسلامية للمرة الأولى على تماس مباشر مع تركيا، وهو ما يعني السيطرة على منطقة جغرافية كبيرة، تمتد من مدينة منبج في ريف حلب على الحدود السورية التركية شمالا إلى مشارف بغداد جنوبا، بما تعنيه هذه المساحة الجغرافية الكبيرة من إمكانية التوزع والانتشار والمناورة، وهذا أمر مهم في ظل غارات التحالف الدولي ضد مواقع التنظيم. السيطرة على كوباني تعني، أيضا، بالنسبة إلى التنظيم ليس فقط إفشال المشروع القومي الكردي وإنما إبعاد خطر العامل الكردي الذي ظهر على الأرض كقوة فاعلة محتملة لمحاربة داعش إذا ما قرر التحالف الدولي التحرك على الأرض من خلال قوات محلية، وثمة من يرى أن هجوم داعش على كوباني كان لتحقيق هذا الهدف، بعد أن لاحت للتنظيم إمكانية التحالف بين قوات وحدات حماية الشعب الكردية وفصائل من الجيش الحر في إطار ما عرف بغرفة بركان الفرات وإمكانية انتقال هذه التجربة إلى مناطق أخرى. وفي الأساس، فإن إيديولوجية التنظيم تقوم على توسيع حدود الدولة التي أعلنها كلما استطاع ذلك. وبالنسبة إليه، فإن معركة كوباني هي معركة من معارك توسيع حدود دولته التي وعد بها، وامتلاك المزيد من عناصر القوة والنفوذ، خاصة إذا نجح في استثمار وصوله إلى الحدود التركية بضم المزيد من المقاتلين القادمين عبر الحدود أو حتى بناء حاضنة له داخل تركيا، فضلا عن العامل الاقتصادي المهم الذي سينتج عن تحكمه بطرق التجارة عبر الحدود من تركيا إلى العراق عبر سوريا أو حتى العكس في ظل التقارير التي تتحدث عن تهريب التنظيم للنفط من العراقوسوريا إلى الداخل التركي. دون شك، فإن مرحلة ما بعد معركة كوباني -إذا نجح التنظيم في السيطرة عليها- ستضع التنظيم أمام تحد جديد متمثل بالعامل التركي، إذ إنه سيصبح أمام جيش قوي مستنفر على الحدود ومتحسب لأي طارئ، مما يعني إمكانية الصدام مع الجانب التركي، خاصة إذا قررت تركيا الانخراط في ضربات التحالف الدولي ضد داعش أو حاول التنظيم نقل نشاطه إلى الداخل التركي. تركيا ومعركة كوباني تعاملت تركيا منذ البداية مع معركة كوباني وفق استراتيجية دقيقة قامت على ثلاثة مستويات، يمكن وصفها بالحرب الذكية: الأول، مستوى إنساني يتمثل في استقبال آلاف النازحين من كوباني، حيث بلغ عددهم قرابة 200 ألف شخص؛ أما الثاني فهو مستوى التأهب الأمني للتعامل مع أي طارئ يهدد أمنها؛ فيما يتعلق المستوى الثالث والأهم بإدارة المعركة عن بعد، وقد اعتمدت هنا استراتيجية دع الأعداء يتقاتلون أي الكرد وداعش، فهي تصنف الطرفين في خانة الإرهاب والأعداء، فطوال المرحلة الماضية بقيت دباباتها وطائراتها شاهدة على ما جرى دون أن تتحرك حتى ولو من زاوية إنقاذ الكرد من مجازر محتملة. في كل هذه المستويات، حاولت تركيا الاستفادة مما جرى لدفع مشروع إقامة المنطقة العازلة إلى أرض الواقع والحرص على الظهور بمظهر الدولة المؤثرة القادرة على التدخل والتأثير في مجرى الأحداث إذا لزم الأمر. في سياق إدارة تركيا لمعركة كوباني، كان لافتا تصريح رئيس الحكومة أحمد دواد أوغلو عندما أكد أن بلاده ستسعى بكل ما يمكن إلى عدم سقوط المدينة بيد داعش، وهو تصريح جاء على وقع تهديد زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان بأن سقوط كوباني يعني نهاية عملية السلام الكردية التركية. التصريحان السابقان كانا كفيلين بأن يقوم رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي صالح مسلم بزيارة قصيرة وسريعة لأنقرة لطلب المساعدة التركية، وهي مساعدة حالت دونها الشروط التركية الثلاثة، وهي -حسب الصحافة التركية- فك العلاقة مع النظام السوري والعمل على إسقاطه، الانضمام إلى الجيش السوري الحر والائتلاف الوطني السوري، والتخلي عن مشروع الإدارة الذاتية التي أعلنها مسلم قبل أكثر من سنة. وقد كان من الطبيعي أن يرفض مسلم هذه الشروط، نظرا إلى أن القبول بها يعني نهاية المشروع الكردي الذي عمل ويعمل لأجله، فضلا عن أن مثل هذا القرار لا يقرره صالح وحده، طالما أن حزبه ينضوي في الإطار العام لمنظومة حزب العمال الكردستاني. ما سبق يعني أن الطريق أمام داعش إلى كوباني باتت مفتوحة حتى لو تأخر ذلك قليلا بسبب المقاومة الشرسة للمقاتلين الكرد، فيما الثابت أن حسم هذه المعارك لن يكون دون وقوع مجازر ستذكر العالم بما جرى في سنجار ضد الإيزيديين. ودون شك، أيضا، ستطرح سيطرة داعش على كوباني تحديات كثيرة وكبيرة أمام تركيا: أولا، لأن سقوط المدينة سيفجر موجة غاضبة عارمة من قبل الكرد في تركيا، وقد يتطور الأمر إلى توتر العلاقة بين الجانبين؛ الثاني، أن حزب العمال الكردستاني سيتخلى عن عملية السلام مع الحكومة التركية كما أعلن سابقا، مما يعني احتمال العودة إلى العنف مجددا؛ ثالثا، كيف ستتعامل تركيا مع احتلال داعش لكوباني؟ هل يمكن أن تتدخل عسكريا؟ وكيف ستتصرف مع قضية عشرات الآلاف الذين نزحوا من كوباني؟ من الصعب الإجابة عن هذه الأسئلة طالما أن أجوبتها تدور في الغرف التركية المغلقة، إلا أنه من الواضح أن الحشد العسكري التركي على الحدود، وتفويض البرلمان للجيش التدخل عسكريا في سورياوالعراق، والإصرار التركي على ربط الحرب ضد داعش بإسقاط النظام السوري، وإقامة منطقة عازلة.. كلها مؤشرات توحي بأن الجواب التركي عن كل ما سبق لن يكون إلا عبر التدخل العسكري ومن بوابة الحرب ضد داعش.