خالد الشرقاوي السموني يتضح من المقتضيات سابقة الذكر أن التشريع المغربي في مجال العفو يتناقض بشكل مباشر مع نظام روما، ولكن في ظل النظام الجنائي الحالي، والذي يتضمن جرائم وعقوبات عليها لا ترقى إلى مستوى خطورة أصناف الجرائم المدرجة في نظام روما، وعند مصادقة المغرب على هذه الأخيرة وتضمين الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب في تشريعنا الوطني، فلا يتصور ترك حق العفو الممنوح للملك على إطلاقه، بل ينبغي تقييده واستثناء الجرائم المذكورة من إمكانية العفو بالنظر إلى بشاعتها وطابعها الشنيع المتناقض مع كل القيم الإنسانية. وبالتالي، لا يمكن استساغة الدفع بعدم إقرار حق العفو من طرف معاهدة روما لاستبعاد إمكانية المصادقة عليه من المغرب، ولاسيما أن المادة 110 من المعاهدة تتحدث عن العفو عن العقوبة وليس العفو الشامل عن الجريمة الذي يصدر بقانون ويجرد عن الجريمة صفتها الجرمية. وكيفما كانت الأحوال، لا يمكن تصور تجريد أصناف الجرائم المشمولة بسلطة المحكمة الجنائية الدولية من طابعها الإجرامي. الفرع الرابع: عدم تنصيص نظام روما على عقوبة الإعدام ينص الفصل 16 من القانون الجنائي على أن العقوبات الجنائية الأصلية هي الإعدام والسجن المؤبد. ورغم فظاعة الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، تطبق المحكمة وفقا للمادة 77 عقوبات على ارتكاب الجرائم التي تدخل ضمن اختصاصها، حيث يجب ألا تتعدى فترة العقوبة ثلاثين عاما كحد أقصى (المادة 70)، ويجوز توقيع عقوبة السجن المؤبد إذا كانت مبررة بالخطورة البالغة وبالظروف الخاصة بالشخص المدان. لذلك، فإن نظام روما لا ينص على عقوبة الإعدام في حق الجناة، أي الذين ثبت تورطهم في إحدى الجرائم سالفة الذكر؛ غير أن المادة 20 من نظام روما تعطي الحق للدول، إذا ما شرعت في محاكمة المتهمين أمام هيئاتها الوطنية، في أن تطبق هذه العقوبة؛ ولا تعارض في ذلك مع نظام روما إذا سارعت الدولة إلى تحريك الدعوى ضد مقترفي الجرائم الأخطر على مر التاريخ. الفرع الخامس: ادعاء وجود مقتضيات المساس بالسيادة الوطنية لعل الأسباب الحقيقية، التي أخرت إنشاء محكمة جزاء دولية دائمة لمحاكمة أصناف الجرائم الخطيرة، تعود إلى وجود مواقف وتوجهات دولية تعتبر أن من شأن إحداث هيئة جنائية قارة أن يؤثر على سيادة الدول، بحكم أن القضاء الجنائي الوطني يشكل أحد مظاهر سيادة الدولة، ومن شأن إحداث محكمة جنائية دولية أن يؤدي إلى انتهاك سيادة الدول، كما أن تجارب المحاكم المحدثة بعد الحروب الدولية أو الأهلية تؤكد على الطابع الاستثنائي لهذه الهيئات وارتباطها بظروف معينة (محكمتي نورمبرغ وطوكيو بعد الحرب العالمية الثانية ومحكمتي يوغوسلافيا ورواندا على إثر النزاعات المسلحة التي شهدتها هاتان الدولتان). غير أن الحجج التي استقر عليها معارضو إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة -حسب أحد الأساتذة الباحثين- مردود عليها، حيث يرى أن مفهوم السيادة الذي يتمسك به الموقف المعارض أصبح مفهوما تقليديا ومتجاوزا في ظل كثافة شبكة العلاقات الدولية، وازدهار ظاهرة التكتل على المستوى الإقليمي والدولي؛ فعندما تنضم دولة معينة إلى منظمة معينة، فإنها تتنازل عن جزء من سيادتها استنادا إلى مبدإ الاعتماد المتبادل والمصالح المشتركة. كما أن إحداث محكمة جنائية دولية ليس فيه أي تأثير على السيادة الوطنية، فالدولة عندما تصادق على النظام الأساسي للمحكمة فإنها تمارس سيادتها، كما تحتفظ بحقها في إجراء المحاكمات على أراضيها باعتبار أن قانونها الداخلي يطبق بالأولوية من طرف جهازها القضائي والمحكمة الجنائية الدولية لا تعدو أن تكون جهازا مكملا للاختصاص القضائي للدولة. ومن أجل المصادقة على المحكمة الجنائية الدولية، سلكت كل من بلجيكا وهولندا وإسبانيا والأردن طرقا بديلة لتجاوز صعوبات التعديل الدستوري، حيث اتبعت أساليب مختلفة في سياق المصادقة على المحكمة، واكتفت بتفسير الأحكام الدستورية على نحو يتوافق مع النظام الأساسي للمحكمة، حتى تتفادى الأعباء الناتجة عن تعديل دساتيرها وما يترتب عنه من تأخير قد يسبب إعاقة لعملية التصديق. وهناك دول أخرى، مثل فرنسا واللوكسمبورغ، طرحت مسألة تعديل الأحكام الدستورية على المجالس الدستورية المختصة قبل التصديق على المحكمة الجنائية الدولية، بينما صادقت بلجيكا على المحكمة الجنائية الدولية في مرحلة أولى، وبعد ذلك أدخلت تعديلات على مجموعة من المقتضيات الدستورية في سياق الملاءمة في مرحلة موالية. فعلى سبيل المثال في فرنسا، ذهب المجلس الدستوري في نفس الاتجاه، وقرر وجود تعارض بين المادة 27 من النظام الأساسي للمحكمة والمادة 68 من الدستور الفرنسي التي تكفل حصانة مطلقة لرئيس الجمهورية في ما يتصل بأدائه لمهامه وواجباته إلا في حالة الخيانة العظمى. ومن هذا المنطلق، يضيف قرار المجلس الدستوري، فالمحكمة الجنائية الدولية غير مؤهلة لتوجيه أي اتهام إلى رئيس الجمهورية الفرنسية، خلال فترة أدائه لوظائفه، حيث لا يمكن متابعته لأي سبب من الأسباب وحصانته مطلقة إلا أمام المحكمة العليا الفرنسية في حالة الخيانة العظمى ووفق الإجراءات المنصوص عليها في المادة 68 من الدستور الفرنسي. وفي نفس سياق تفسير دساتير الدول المصادقة التي وردت في قرارات المجالس الدستورية، يمكن سلك نفس الاتجاه في المغرب. فالدستور المغربي يستبعد نهائيا أي إمكانية لارتكاب الملك أفعالا تقع تحت طائلة القانون الجنائي الوطني؛ والدستور يعتبر، أيضا، أن الملك يجب أن يبقى بمنأى عن أية تدابير للمتابعة؛ فحصانة الملك مطلقة، وهي تشمل تصرفاته خلال أدائه لمهام منصبه، كما تشمل، أيضا، التصرفات خارج إطار المهام الوظيفية. ومن جانب آخر، يمكن للمشرع المغربي إدماج مجموعة من المبادئ الأساسية للمحكمة الجنائية الدولية في القانون الجنائي الوطني، مثل مقتضيات (المادة27) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وذلك بالتأكيد بشكل صريح على أن "عقوبات الجرائم الدولية" تطبق "على جميع الأشخاص الذين يرتكبون الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، سواء كانوا أعضاء في حكومة أو برلمان أو ممثلين منتخبين أو موظفين حكوميين، ولا تعفيهم، بأي حال من الأحوال، من المسؤولية الجنائية بموجب القانون الجنائي، كما أنها لا تشكل، في حد ذاتها، سببا لتخفيف العقوبة". خاتمة إن الدولة المغربية تستمد مرجعية تعاملها وسلوكها في مجال حماية وتعزيز حقوق الإنسان من المواثيق الدولية التي التزمت باحترام وتطبيق مقتضياتها كما نصت عليها في ديباجة الدستور، ومن ثم فإدماج المعايير الدولية لحقوق الإنسان في التشريع الوطني وملاءمته مع قواعد القانون الدولي يتناسب مع تعهد الدولة المغربية بالالتزام باحترام حقوق الإنسان والتصديق على المحكمة الجنائية الدولية حتى لا تسقط في مسألة التعارض بين مقتضيات قانونية دولية وأخرى وطنية في مجال حماية حقوق الإنسان. إن ترسيخ حماية حقوق الإنسان في ديباجة الدستور المغربي الحالي هو بمثابة إعلان على إدراج حماية حقوق الإنسان ضمن الثوابت الأساسية التي يقوم عليها النظام السياسي المغربي، كما هو الشأن بالنسبة إلى الدعامات الأخرى، كالإسلام والملكية الدستورية والوحدة الترابية؛ فالإقرار بالتشبث بحماية حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا في ديباجة أسمى قانون في البلاد، هو تعبير حقيقي عن الإرادة السياسية للدولة في توطيد احترام الحقوق والحريات للمواطن. *مدير مركز الرباط للدراسات السياسية والاستراتيجية