محمد فخرالدين قال الراوي ثم إن الحارث قال لعنترة يا سادة يا كرام : وإن كنت ما سمعت بهذا الحصان، فهذا هو الأبجر بن النعامة، وهو الذي عليه الملوك في كل زمان تتحسر مثل كسرى وقيصر....ولم يكن لهم مثل هذا الجواد الذي لم يبعد عليه ميعاد، ويبلغ راكبه كل المراد... ثم انه أشار وقال وأنشد هذه الأبيات صلوا على النبي سيد السادات: إن كنت تطلب هذا المهر تركبه .. دع الغنيمة أولا عنه وانصرف لأنه نعم مركوب إذا اشتبكت ... زرق الرماح ونار النقع كالسجف فلما انتهى الحارث بن ناشد من كلامه وسمع عنترة حسن شعره ونظامه قال لعنترة: أنتم الذين تعديتم علينا بالشر وسفك الدماء وصرتم لنا أعداء..فإن كنت توافقني في العدل والمروءة، فقل للعبيد تسلمني المال والنساء والعيال، وأعود بهم إلى الأوطان، وتأخذ أنت المهر الذي هو أعجوبة الزمان، والله لو لم أكن قد أكلت من رزقهم وأنا لهم حام مصالح، ما كنت في جوادي هذا مسامح .. فلما سمع عنترة من الحارث ذلك الكلام، بقي وكأنه في حلم المنام، وعلم أن الحارث هو من الناس الكرام، فأراد أن يساويه في المروءة وحسن الشيم، فقال له: يا فتى لقد اشتريت منك المهر بهذه الغنيمة.. وتعاهدا على ذلك فلما استوثق الحارث منه نزل عن المهر وسلمه إليه، ونزل عنترة عن جواده ووهبه إليه، وسلمه العبيد والنساء والعيال فأمر العبيد أن يعودوا في الحال بهم إلى الديار.. فعادوا في الحال وعنترة يرعاهم إلى أن غابوا عن الأبصار، وسار عنترة، وقد نال بالأبجر غاية المنى وحصل على ما كان عليه يتحسر..... أما ما كان من أمر فرسان بني عبس بقيادة عياض بن ناشد، فإنه لما طلعوا يبحثون عن الغنائم والأموال التي تركوها في عهدة عنترة .. رأوه سائرا وحده والغنيمة ليست عنده، فوصل بهم الغضب حدا لا يوصف، ولم يعلموا شيئا عن السبب في ذلك، وصاحوا به: ويلك يا ابن زبيبة اين رحلت بالغنيمة؟ قال: يا بني عمي بعتها بهذا المهر وربحت بها الغنيمة الكبيرة.. فلما سمع عياض بن ناشد صار يغمغم ويدمدم ويقول: ويلك يا عبد السوء، نحن أعطيناك ما يأخذ الواحد منا فأخذت الكل .. فقال عنترة: الآن كان ما كان، وأنا أخلفها لكم في غير هذا المكان .. قال الراوي يا سادة يا كرام فزاد بعياض بن ناشد الغضب وقال لأصحابه: دونكم وهذا الولد نسل الحرام، قوموا واسقوه كأس الحمام .. فعندها هاجت فرسان بني عبس وتهيأت للقتال، فخرج عليهم عنترة بجواده الأبجر ونزل عنه وشد حزامه ثم إنه عاد الى ظهره أسرع من البرق، وصال وجال وأوسع المجال ...ثم وقف وأنشد هذه الأبيات: أعاتب دهرا لا يستجيب لناصح .. وأخفي الجوى في القلب والدمع فاضحي وقومي مع الأيام عون على دمي ... وقد طلبوني بالقنا والصفائح وقد أبعدوني عن حبيب أحبه ....و أصبحت في بر من الأرض نازح وقد هان عندي بدل نفسي عزيزة ... ولو فارقتني ما بكته جوارحي فلما سمعت بني عبس مقاله وفهموا قصده ومرامه، توقفوا عن نزاله وتأخروا عن قتاله وصار بعضهم يحرض عليه ويتأخر .. قال عياض بن ناشد لقومه من بني عبس: والله ما تأخرت عن قتال هذا العبد ما رأيت من صدق مقاله وروعة إنشاده وشدة بأسه وشجاعته، وما سمعت عنه من أخبار مشهورة فإنه ابو الفوارس عنترة حامية بني عبس .. ثم تقدم إليه وقال له: اما تستحي أن تقاتل أبناء عمك وتشهر في وجههم السلاح، ودمهم هو دمك. قال عنترة: والله اعتذر منكم يا أبناء العم، وسيفي هو سيفكم والدم .. فقالوا له كلهم: نحن وهبناك الغنيمة ولم نعد نطالبك بشيء من ذلك.. هكذا انطفأت النار حسب الظاهر وبقيت متوقدة في بعض الضمائر، وعاد عنترة وهو فرحان بمهره الأبجر الذي ما حاز مثله كسرى ولا قيصر، وكيف لا يكون كذلك وذلك الحصان هو الأبجر بن نعامة التى تحسرت عليه وعلى أمه أهل اليمامة..