سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
نائب القنصل الفرنسي يصرخ في وجه أحد بحارة «غاليلي»: لقد خدعتموني حالة استنفار في القنصلية الفرنسية ليلة الإنزال والقناصل الأوربيون يستدعون مواطنيهم في الثالثة صباحا
عبد الله عرقوب في كتابه «التدخل الأجنبي والمقاومة بالمغرب» يقول علال الخديمي إن العديدين يتوهمون بأنهم يعرفون أحداث الدارالبيضاء سنة 1907/1908 «لأنهم قرؤوا عنها بعض الأسطر أو بعض الصفحات في المؤلفات التي اهتمت بتاريخ المغرب». ويتعمق الوهم أكثر حين يربط هؤلاء ربطا مباشرا بين مقتل التسعة أوربيين في 30 يوليوز 1907 وبين قصف المدينة وتدميرها يوم 5 غشت من العام نفسه. ربطٌ حاولت الكتابات الفرنسية، التي تناولت الحدث أن تمرره قصدا لإخفاء المبررات الحقيقية لمذبحة الدارالبيضاء. في هاته الحلقات سنحاول ما أمكن استرجاع ما حدث في تلك الأيام العصيبة من تاريخ الدارالبيضاء، مستندين على شهادات صحافيين عايشوا عن قرب فجائع تلك الفترة أمثال كريستيان هويل وشارل بوردون، وعلى مؤلفات أكاديميين أمثال أندري آدم وعلال الخديمي. كانت ليلة الإنزال ملأى بالترقب والتوتر. في القنصلية الفرنسية تم تجميع كل ما تبقى من الفرنسيين، ووزعت عليهم الأسلحة، وأخذ كل واحد منهم مكانه في انتظار ما سيحدث في الفجر. كان الجميع يعلم بأمر الإنزال بعد أن أخبرهم نائب القنصل بأن أسطولا مرفوقا بقوات هائلة سيصل في الليل قبالة ساحل الدارالبيضاء، وأن هذه القوات سيتم إنزالها في الخامسة صباحا. القناصل الأجانب أُخبروا هم الآخرون بهذه المستجدات عبر رسالة بعثها إليهم روجيه ميكري. أحد مقاطع الرسالة يوضح بأن الأسطول «لديه أمر بالقصف إذا لم يكن باب المرسى مفتوحا في هاته الساعة، وإذا أطلقت رصاصة على رجالنا». لا يعرف بالتحديد متى أُعلم القناصل بالأمر. إذ وقع تضارب في الروايات حول الساعة التي علم فيها ميكري بالخبر، وكذا الوقت الذي أبلغ فيه باقي القناصل. يحكي كريستيان هويل، وكان وقت الإعلان عن خبر الإنزال في القنصلية الفرنسية، أن ميكري أعلمهم بالأمر عشية رابع غشت. فيما يذهب جورج بوردون إلى أن ذلك وقع في الحادية عشرة ليلا. أما نائب القنصل ميكري فأعلن بنفسه أن الخبر نزل ليلة الرابع والخامس من غشت. وهذا يتوافق مع ما أشار إليه فكتور بيرتي في كتابه «أحداث الدارالبيضاء». إذ يذكر أن ميكري «اتخذ بين منتصف الليل والساعة الرابعة صباحا الإجراءات والاحتياطات اللازمة، فقد جمع الجالية الفرنسية بالقنصلية، ثم أخبر القناصل بالقرارات المتخذة، وتأكد من أن مولاي الأمين سيقوم بالضروري لكي ينزل البحارة في أمان إلى القنصلية». واستنادا على الروايتين الأخيرتين، فإن إخبار القناصل الأجانب لم يتخذ إلا بعد منتصف الليل. إذ يشير القنصل البريطاني مثلا إلى أنه لم يعرف بالخبر إلا في الساعة الواحدة والنصف من صباح الخامس من غشت. فيما أشعر القنصل الألماني بالأمر في الساعة الثانية صباحا. وربما يكون هذا هو التوقيت الذي أخبر فيه بقية القناصل وكذا مولاي الأمين وبوبكر بن بوزيد. أما بالنسبة إلى الجالية الأوربية فيبدو أنها لم تخبر إلا في وقت متأخر جدا. إذ يروي دومينغو بيريا، وهو من أصل كوبي وكان يدير آنذاك فندق كونتننتال، أنه في «يوم 5 غشت 1907 بين الساعة الثانية والثالثة صباحا بعث القناصل عملاء إلى مواطنيهم الذين يسكنون بنُزلي، وأمروهم بالانتقال إلى قنصلياتهم الخاصة، فنفذوا الأمر حالا». في هذا الوقت بالذات كان أهالي الدارالبيضاء غارقين في نومهم، وغير واعين بما كان يحدث حولهم. في القنصلية الفرنسية كانت حالة الاستنفار في أعلى درجاتها. كل من كان في القنصلية قضى ليلة بيضاء يترقب ظهور الأسطول الفرنسي الذي تحدث عنه قائد «غاليلي». يروي كريستيان هويل الذي قضى تلك الليلة رفقة الفرنسيين «كنا نملأ السطوح، وأعيننا لا تغادر الأفق حيث كان يجب أن تظهر خيوط الدخان الأولى للأسطول (...) كنا ندخن، نثرثر، نبدل أمكاننا، ونلتقي باستمرار قبالة هذا الأفق، الذي صار الآن غارقا في الظلام، الذي ستنيره أضواء السفن الحربية حين مجيئها (...) ميكري ونوفيل كانا متوترين قليلا، يظهران ويختفيان، ونظراتهما مثبتة مثلنا على اللامرئي». لم يستطع أحد من الموجودين في القنصلية الفرنسية أن يغمض عينيه. النظرات مسمرة في الأفق وتراقب بين الوقت والآخر عداد الساعة. هل كانت القنصليات الأوربية الأخرى تعيش هي الأخرى نفس الترقب؟ ليست هناك شهادات عما حدث تلك الليلة في تلك القنصليات. كما لا توجد شهادات عما عاشه مولاي الأمين وعامل المدينة في تلك الليلة أيضا. مع بدء تراجع مساحة الظلمة وانسلال الخيوط الأولى من الضوء بدأت حالة من الخيبة العميقة تسيطر على الجالية الفرنسية. لكن في لحظة مفاجئة، ودون توقع من أحد سُمع اهتزاز في سفينة «غاليلي», التي كانت تبدو للعيان من سطح القنصلية، وبدأت القوارب تنزل وتمتلئ بالرجال وتغادر نحو الشاطئ. في هاته اللحظة، يحكي هويل، انتصب نائب القنصل أمام الملازم كوزم، الذي كان بالقنصلية، وصرخ في وجهه: كيف؟ أنتم تقومون بالإنزال؟ لقد خدعتموني! فأجابه الملازم: سيدي، فرنسا ليست لديها سوى كلمة واحدة. لقد أعلنا أن الإنزال سيكون في الخامسة صباحا، وفي الخامسة صباحا قمنا به. قال هويل وهو يعلق على هذا المشهد: «بعد هاته الكلمات استسلم ميكري». قبل أن يضيف «الآن لا يجب التفكير سوى في فرنسا، التي أهينت طويلا من قبل الهمجيين».